فؤاد الهاشم

مازالت «داحس» تعيش … بداخلنا!!

في 16/9/1982 وقعت مجزرة «صبرا وشاتيلا» أثناء الحرب الأهلية في لبنان، وقام بها حزب الكتائب اليميني وجيش لبنان الجنوبي العميل، وجيش الدفاع الإسرائيلي! لا يوجد رقم محدد لعدد الضحايا، لكن التقديرات تشير إلى حوالي ثلاثة آلاف معظمهم من الفلسطينيين والباقي من اللبنانيين! في تلك الليلة انقسمنا إلى فريقين داخل جريدة «الوطن» الكويتية، الفريق الأول – وكنت منهم- يرى نشر كل الصور التي وصلتنا عبر الوكالات مهما كانت بشاعتها – والفريق الآخر يرفض ذلك ويتذرع بـ «مشاعر القراء ومنظر الجثث المشوهة ومراعاة مشاعر نصف مليون فلسطيني يقيمون في الكويت».. وقتها!!
بعد شد وجذب وجدال انتصر الجناح «الراديكالي»، وهو الفريق الأول – وأنا منهم – وأفردنا صفحات داخلية كثيرة؛ لنشر عشرات من الصور المخيفة للمذبحة! «راديكاليتي» ازدادت قليلا وطلبت نشر صورة بالألوان لجثة عجوز منتفخة وبجانبها حصان نافق «الكتائب وعملاء جيش اليهود لم يعتقوا حتى الحيوانات» على الصفحة الأخيرة، ولأن قراء هذه الصفحة يبدأون تصفح الجريدة بها!! وأيضا مع الشد والجذب وافق رئيس التحرير، ونشرنا الصورة الملونة على الأخيرة، وكانت – كما قلنا- لعجوز فلسطينية في حوالي السبعين انحسر عنها فستانها إلى أعلى الفخذ!!
صدرت الجريدة في صباح اليوم التالي، وتلقفتها مئات الآلاف من أيادي القراء.. لتأتي بعدها المفاجأة .. اللاطمة!! لم يهدأ رنين بدالات الجريدة، ولا هواتفها المباشرة في مكاتبنا من أصوات غاضبة، اعتقدنا أنهم يريدون استنكار المجزرة وإجرام اليهود والكتائب وعملاء جيش لحد، إلا أن الحقيقة أن غضبهم كان مرتكزا على أمر… آخر، وهو: لماذا تظهر عورة العجوز المنتفخة؟ ولم تراعوا عاداتنا وتقاليدنا؟! كانت صدمة أوجعتنا أكثر من وجعنا بجريان كل ذلك الدم، وكأن من عاداتنا وتقاليدنا ألا نهتم بإزهاق أرواح بريئة وقتل أنفس آمنة، بل.. لماذا ننشر صورة لعورة.. جثة؟! بث تلفزيون الـ «B.B.C» من لندن تقريرا حول جدل دار في وسائل التواصل الاجتماعي تم رصده من «صفاقس» إلى «مسقط»، ومن «الكويت» إلى نواكشوط» لعشرات الآلاف من المغردين العرب يبدون فيه غضبهم الشديد من ارتداء سباحات عربيات ملابس السباحة! لا تهمهم المشاركة العربية في الأولمبياد، ولا فوز أي بطلة سباحة عربية بميدالية ذهبية أو فضية أو برونزية أو رفرفة علم عربي، وعزف نشيد وطني على مرأى من مليون متفرج في البرازيل وملياري مشاهد عبر التلفزيونات، بل المهم: «ليش عورات البطلات غير مستترات»؟! حين تحررت مدينة «منبج» السورية من داعش، تراكضت وسائل الإعلام الأجنبية لنقل هذا الحدث الجلل بكل تفاصيله، ونقلت فرحة أهالي المدينة رجالا ونساء بتحرير بلدتهم من هذا الفكر النازي، وعودة الأمن والأمان والطمأنينة إليها، بينما عمدت وسائل الإعلام العربية – أكرر العربية للتركيز على مشاهدة «حرق النساء عباءاتهم السوداء وحلاقة الرجال لحاهم البيضاء» لتتساءل بذات العقلية التي اتصل بنا أصحابها في عام 1982 في الجريدة، وتقول: .. «ألا يعتبر حرق العباءة والحجاب وحلق اللحي أمرا يخالف شرع ديننا وعاداتنا وتقاليدنا الإسلامية»؟! لم يثر حفيظتهم معاناة هؤلاء البشر وتعرضهم للقتل والتعذيب والاغتصاب والجوع والعري طيلة احتلال هؤلاء الدواعش الأنجاس لبلدتهم، ولم يغضبوا لإزهاق أرواح من زهقت وأعراض من اغتصبن، بل.. ثاروا ثورة «عبس وذبيان» على ما جرى بين «داحس والغبراء»؛ لأن عورة عجوز ميتة ظهرت!! لنكتشف – نحن أمة العرب – بأن مداركنا لم تتغير منذ الجاهلية الأولى وحتى مهرجان «ريو».. الأخير!! فطوبي للمصلحين والعقلاء، وطوبة على دماغ «المرجفين ..الأغبياء»!!

****

آخر العمود:
لنقلُ الصخر مِن قِمِمِ الجِبالِ — أَحَبُّ إِليَّ مِن مِنَنِ الرِّجالِ
يَقولُ الناسُ لي في الكَسبِ عارٌ — فَقُلتُ العارُ في ذُلِّ السُّؤالِ

****

آخر كلمة :
قال الجاحظ في الكتاب: إني لا أعلم شجرة أطول عمرا ولا أطيب ثمرا ولا أقرب مجتنى من … كتاب!!

آخر مقالات الكاتب:

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *