عبداللطيف الدعيج

المقاطعة والمشاركة تراث كويتي

عزم الحركة الدستورية على خوض الانتخابات المقبلة أثار ردود فعل كثيرة، أغلبها ان لم يكن جلها، ردات فعل سخيفة، طفولية عفوية، وانتقامية متشفية. من المعلوم انني لا أدافع على الاطلاق عن الحركة الدستورية الاسلامية، ولكني أرى ان من حق، بل في الواقع، من واجب كل اتجاه سياسي ان يحني رأسه للعاصفة أو ان يسبح مع التيار أو ان ينثني ويتطوع للواقع والمنطق. هذه هي السياسة، فن الممكن، وهذا هو التعامل مع الواقع، اخضاعه بمقدار الخضوع ذاته له. لكننا تربينا على أيد جاهلة سياسياً أو عديمة الضمير وطنيا – على رأسها بالطبع «حدس» وكل بقية التنظيمات السياسية المعروفة – التي استهلكت عقوداً بل قرونا تحارب طواحين الهواء وتسعى الى تحقيق المستحيل، ومع الأسف لا تزال.
عندما قررت ما يسمى بالقوى السياسية مقاطعة الانتخابات، كتبت ناصحاً ان هذه القوى أو بالأحرى المجاميع السياسية ليست مهيأة لمقاطعة الانتخابات. ولا تملك في الواقع اطلالات سياسية غير مجلس الأمة ونوابه، سواء للتعاطي السياسي أو للاتصال والتأثير في الناس. كتبت ان هذه المجاميع لا تملك وسيلة للحضور السياسي غير مجلس الأمة، وبغيابها عن مجلس الأمة وانتخاباته تغيب، بل تنسحب تماماً من المسرح السياسي. طبعاً لم يحدث هذا فجأة، لكنه حدث وسيحدث بشكل أوضح لاحقاً، وما عزم حركة حدس المشاركة في الانتخابات المقبلة الا اكتشاف متأخر لهذه الحقيقة التي كانت واضحة للغير منذ البداية.
مؤسف ان تستمر المجاميع السياسية في غيها، أو في الواقع في بدائيتها وتخلفها السياسي، وتصف قرار «حدس» بالمشاركة، بالانتهازية والتكسب والتملق والرضوخ للسلطة! مع ان هذه الاتهامات قد تصح وقد تقارب الحقيقة في الحالات الفردية والذاتية، ولكن ليس في حالة تنظيم عريق وتاريخي كالإخوان المسلمين – أو «حدس» – كما يعرفون في الكويت. صعب ومن غير المنطقي تماماً وصف تنظيم كامل أو حتى قيادة هذا التنظيم مجتمعة بالتكسب والتملق، رغم تعدد المصالح والاتجاهات وحتى التنافس الشخصي بين هذه القيادات. لهذا وصفت في بداية المقال ردات الفعل السلبية بأنها طفولية وسخيفة، وهي في الواقع كذلك.
الآن.. وبنظرة محايدة وتحليل سياسي ومنطقي سليم.. هل قرار المشاركة أو بالأحرى إنهاء المقاطعة صحيح؟ أنا طبعا ممن أيد «بقوة وإصرار» قانون الصوت الواحد الذي تسبب في المقاطعة. لذا، فإن اجابتي معروفة مسبقا وليست محايدة تماما، وهذا انذار مستحق للقارئ، ولكن مع هذا سأحاول ان انظر للامر بنظرة محايدة ومجردة قدر المستطاع عن الموقف المسبق.
لقد قاطعت المجاميع السياسية الانتخابات على امل ان تؤدي المقاطعة الى إجبار السلطة على التراجع وإلغاء قانون الصوت الواحد. ولكن من الواضح والجلي ان هذا ما لم يحدث.. بل ان قانون الصوت الواحد اصبح حقيقة وواقعا يحدد الوضع السياسي في الكويت. قد يحلو للمقاطعين ان يزعموا بأن مقاطعتهم نجحت، وأن العزوف عن المشاركة في تزايد. لكن الواقع اثبت ان المقاطعة تمت في دائرتين فقط: الرابعة والخامسة، وذلك راجع بوضوح وحقائق لا تقبل النقاش الى طبيعة المقاطعين «الجمعية» وليس السياسية، والى الاصول والاهداف والدوافع القبلية للتمسك، سواء بنظام الخمس دوائر او نظام الدائرة الواحدة الذي تبنته المعارضة «القبلية» ولا تزال تصر عليه.

المعارضة ملح المجلس

المقاطعة فشلت، ومن الممكن الاضافة الآن بعد ان اصبح الامر واقعا، وبعد ان قررت بعض الاطراف المعارضة او بالاحرى المقاطعة العودة الى الحظيرة الانتخابية، من الممكن الآن الجزم بأن المقاطعة فشلت فشلا ذريعا ولم تقترب لا من بعيد ولا من قريب من تحقيق الهدف منها، وهو إثناء السلطة عن قرار الصوت الواحد او اقناع الاغلبية الانتخابية ببطلانه.
مع هذا يدعو الانصاف الى الاعتراف بان المقاطعة حققت اهدافا ونتائج ايجابية من الممكن حتى وصفها بالمبهرة، هذه النتائج وان كانت جانبية ومنقطعة الصلة بالهدف الحقيقي للمقاطعين، فإنها تبقى ذات تأثير سياسي عام وفعّال، وهو ربما ما ساعد على دفع الحركة الدستورية إلى اتخاذ قرار المشاركة. فالهدف، من المشاركة، هنا كما يبدو، هو استغلال هذه النتائج الايجابية عوضا عن تركها للاندثار والاضمحلال مع اندثار وذبول من حققها من مجاميع سياسية.
لقد اثبتت المقاطعة ان «المعارضة»، ايا كانت طبيعتها واتجاهها، هي ملح المجلس، وهي «الدينامو» أو المحرك للوضع السياسي. غياب المعارضة عن مجلس الامة بعد انتخابات الصوت الواحد، وان كان قد ادى الى انسجام نواب المجلس والى تسريع وتفعيل ادائه، الا انه افقد المجلس نضارته وبريقه، بل وأهميته. كما اثبتت المقاطعة ان العيب ليس في المعارضة أو القوى المؤزمة كما وصفتها بعض اطراف السلطة، بل ان العيب والخلل هو في الوضع العام، وضع المعارضة – هذا في رأيي بالطبع – ووضع السلطة. او وضع الانسان الكويتي بشكل عام تحديدا. لكن مع الاسف حتى الآن لا تزال الاطراف المعارضة تلقي باللوم على السلطة وحدها. ولا تزال الاطراف المؤيدة للسلطة تتهم المعارضة بتعطيل التنمية وعرقلة الانجاز الحكومي المزعوم. وبين، وبفعل هذا التراشق العفوي او الانتهازي تتزايد مشاكلنا وتتنوع ازمات التخلف وتنمو في هذا المجتمع. هذه قضية بحاجة الى كتب وليس إلى مقال عارض، لكن من تابعني في السابق ربما يتذكر ان اتجاه كتاباتي الدائم كان يضع اللوم على الناس «الشعب» وليس على السلطة أو المعارضة.
لم تفشل المقاطعة وحدها او بذاتها. ولكن الفشل فعليا كان فشل من قاد المقاطعة من مجاميع متخلفة سياسيا تفتقد النظرة العامة للاصلاح والتطوير، وتمتلك في الوقت ذاته مخلفات اجتماعية وموروثا دينيا واجتماعيا يتناقض مع النظام الديموقراطي والدستور الذي تشدقت بالدفاع عنه. ليس في امكان من قاد المقاطعة أو المعارضة المستجدة ضد السلطة ان يطور في النظام السياسي او ان يحقق تقدما اجتماعيا، لانه ببساطة يحمل في ذاته وبين طياته ما يتناقض وهذا النظام، وما يتعارض مع التطور المنشود أو التقدم المزعوم. هذا ربما ما تحسسته «حدس»، وما تلمسه بشكل عارض الطرف المعارض الثالث السيد أحمد السعدون الذي اتخذ مواقف انتقادية مؤخرا ضد اسلوب ونهج نواب المقاطعة الانتخابي. المقاطعة محكوم عليها بالفشل، لان من أشعلها مثل وقودها هو بحد ذاته الازمة والسبب الاساسي في تخلف النظام السياسي الكويتي، او احدى اهم العثرات في المسيرة الديموقراطية، بل وتردي الوضع العام. ومحكوم عليها بالفشل لانها حولت المعارضة الوطنية العامة الى بغل يركبه من يريد صعود القمة السياسية من اطراف السلطة المتصارعة والمعنية بمصلحتها الخاصة.
اعتقد ان قرار الحركة الدستورية الاسلامية خوض الانتخابات المقبلة قرار صائب بغض النظر عن دوافعه. وطنية كانت كما يزعم من اتخذه ام انتهازية وانهزاما كما يدعي من عارضه. قرار صائب ليس لان المقاطعة فشلت او انها لم تعد مجدية فحسب، بل لان المجاميع السياسية المقاطعة فقدت وزنها وتمكن منها الاضمحلال واصبح الاستمرار في هذه المقاطعة انتحارا بطيئا لمن شارك بها. ربما كانت الحركة الدستورية اكثر اطراف المعارضة تضررا من «الانسحاب» الاختياري من الحياة السياسية بحكم كونها حركة «سياسية» – مع قليل من التحفظ – حيث ادى انعزالها الى انحسارها شعبيا وفقدان نفوذها السياسي الذي تحقق بفعل تحالفها السابق مع السلطة وقرار المشاركة في الانتخابات والانضمام للنظام السياسي بقرار المشاركة في انتخابات 1980. بقية اطراف المعارضة ترتكز على نفوذها القبلي أو امتدادها الاجتماعي، لهذا فإن تاثير الانسحاب من العمل السياسي الانتخابي لم يؤثر عليها كتأثيره على «حدس».

ليست المقاطعة أو المشاركة الأولى

ليست هذه المرة الأولى التي يقرر فيها الإخوان المسلمون «المشاركة» في الانتخابات. فقد سبق ذلك قرار المشاركة في انتخابات 1980. قبل هذا القرار كان الإخوان المسلمون في ذلك الوقت يقاطعون العمل الانتخابي، ويعترضون على الخيار الديموقراطي إجمالا بوصفه يتعارض والشرع الإسلامي الذي سعوا، وفي الواقع، لا يزالون يدعون السعي لتطبيقه. الحركة الدستورية الإسلامية قاطعت الانتخابات منذ 1961 وحتى 1974. وقد أدت هذه المقاطعة الى تسيد التيار القومي الناصري وتحكمه في الساحة السياسية بحيث هدد بشكل جدي الوجود «الديني» للإخوان ولكل القوى المعارضة للتطور الاجتماعي والنظام السياسي الديموقراطي. وقد كان من مصلحة الاتجاه الديني التحالف مع السلطة وضرب القوى الوطنية بحل مجلس 1976 ثم الاشتراك مع السلطة للتجهيز لانتخابات 1980، واستغلال الخلاف الذي دب في الحركة الوطنية بين تيارها الشعبي، حركة القوميين العرب، وتيارها الوطني «غرفة التجارة» للهيمنة على الساحة السياسية منذ ذلك الوقت وحتى قرار الانسحاب الذاتي الذي اتخذ عام 2012.
الإخوان المسلمون سياسيا اول من قاطع الانتخابات في تاريخ الكويت المعاصر، لكنهم ليسوا أول من عاد وشارك. ففي عام 1970 قاطعت الحركة الوطنية ممثلة بغرفة التجارة والتجمع الوطني الديموقراطي، جاسم القطامي انتخابات 1970، ولذات الاسباب التي أدت الى المقاطعة الحالية، حيث اعترضت المعارضة الوطنية على التدخل الحكومي في الانتخابات، وعلى التلاعب بالجداول الانتخابية بالذات. وقد دعمنا، الزميل أحمد الديين وأنا، قرار المقاطعة وتولينا الترويج له إعلاميا. لكن الانتخابات جرت، كما جرت انتخابات 2012 خصوصا ان حركة القوميين العرب أو ما عرف بـ «جماعة الطليعة» في ذلك الوقت، شاركوا بها واسبغوا نوعا من الشرعية عليها. ولم تدم مقاطعة الحركة الوطنية -أو جزء منها بالأصح – إلا القليل حيث شاركت القوى الوطنية في الحكومة التي أعقبت الانتخابات والحكومات التي أعقبتها، كما شاركت في انتخابات 1974. وشهدت الكويت – ربما بسبب هذه المشاركة – في ذلك الوقت 1970 – 1976 عصرها الذهبي.
قاطعت الحركة الوطنية انتخابات 1970 ولمدة أسابيع معدودة، أي انها كانت أقصر نفسا بكثير من «حدس». لكن أحدا لم يتهم أحدا بالاستسلام والانهزام أو التمصلح والتملق كما يتهم البعض الحركة الدستورية اليوم. ولم يجرؤ أحد على اتهام عبدالعزيز الصقر بالخيانة أو جاسم القطامي بالتخاذل، ليس لنزاهتهما ووطنيتهما وحسب، لكن وبالدرجة الأساسية لأن الاستمرار في المقاطعة كان مستحيلا، خصوصا بعد مشاركة حركة القوميين العرب وبعد زيادة عدد الناخبين – بالتجنيس- ما رفع نسبة المشاركة إلى %52.
ليست الحركة الدستورية اول من عاد لاحضان «العمل السياسي» وليس بالضرورة لاحضان السلطة فقد سبقتها الحركة الوطنية في ذلك.
حركة القوميين العرب لم تقاطع الانتخابات وحسب، بل قاطعت المجلس برمته. وانسحب ثمانية من نوابها من مجلس 1963. لكنها عادت وشاركت في انتخابات 1967.. وبعد تزوير الانتخابات والتجنيس السياسي والتلاعب في الجداول والمناطق الانتخابية، عادت حركة القوميين العرب بعد التزوير للمشاركة رغم ان قسما كبيرا من الحركة الوطنية الديموقراطية قرر المقاطعة ورفض المشاركة في ظل التزوير ومهزلة تشكيل الدوائر والجداول الانتخابية. الواقع ان المقاطعة والمشاركة كانتا جزءا من تراث الكويت السياسي، حيث شهدت العشرينات والاربعينات كثيرا من الشد والجذب بين الحكم وبين النخبة التجارية الوطنية.
إن السياسة فن الممكن والقدرة على التعامل الواقعي مع الظروف. وسواء أقرت الحركة الدستورية أو بقية المقاطعين بخطأ قرار المقاطعة أم لم يقروا. يبقى ان القرار خيار سياسي قد يصيب مثل غيره وقد يخطئ. وأعتقد ان الحَكَمَ هنا كان حُكم المحكمة الدستورية الذي أضفى الشرعية على التصويب الحكومي لقانون الانتخاب. وكان الأجدر بالمقاطعين الرضوخ لحكم المحكمة بدلا من التشكيك في السلطة القضائية والطعن في ذمة القضاء الذي اثبت في اكثر من مرة كفاءته مثلما عزز الايمان بحياديته ونزاهته.
بقي ان نعود في النهاية للبداية وهي البيان الانتخابي ان جاز الوصف لـ«حدس». اعتقد ان الحركة لم توفق على الاطلاق في بيانها، فقد خلا كما طالب السيد السعدون- لأسباب مختلفة- من الاعتذار. الاعتذار للسلطة القضائية التي لم تحترم حكمها وقراراتها الحركة الدستورية. والاعتذار للناخبين الكويتيين الذين «رضخت» لهم في النهاية «حدس». ان حدس تستسلم أو بالأحرى تنضم.. لكن للناخب الكويتي وليس للسلطة كما يزعم معارضو المشاركة. الناخب الكويتي هو في النهاية بعد المحكمة الدستورية من أسبغ الشرعية على قانون الصوت الواحد ومن جعل منه امرا واقعا، و«حدس» وغيرها ان شاءوا الاستمرار في العمل السياسي وجدوا وسيجدون انفسهم تحت رحمة هذا الناخب.

آخر مقالات الكاتب:

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *