إبراهيم المليفي

أريد النسيان

تأبى الذاكرة أن تستريح من مهمتها في بعث الحياة في مشاهد انتهت وحوارات تلاشت، قيل إن النسيان نعمة وكنت أقول لا بد من الذاكرة على الأقل لأجل إنصاف من اجتهد ولرد الجميل لمن بذلوا لأجلنا دون مقابل، ولكن هيهات الذاكرة تأتي بوجه واحد، إما النسيان الكامل وإما التذكر الكامل، وذلك ما أعرفه ولم أختبر غيره طوال حياتي مع الناس حتى الآن.
حتى وقت قريب ألقيت بكل ما لدي من جبال الصحف التي وضعتها على خط “الأرشفة”، وأفسحت المجال للفراغ كي يأكل ما شاء من أطراف ذاكرتي حتى يصل إلى المتن إن شاء، لم يكن همي إيجاد مساحات خالية في المكان أو الانتقال إلى مرحلة الاعتماد الكلي على محركات البحث الإلكترونية، كان هدفي واضحا ومحددا، أريد النسيان.
مللت من عالم التكرار في الحوارات والأحداث والأخطاء وعدم الاتعاظ ومشاهد الارتطام الحتمي لمن لا يعتقدون أن مصيرهم مختلف عن غيرهم، مللت ممن لا يحترمون دروس التاريخ، لدي مجلدات ضخمة لبوابتي الأولى في عالم الصحافة، وهي صحيفة آفاق الجامعية التي صدرت نهاية سبعينيات القرن الماضي، حصلت عليها منتصف تسعينيات القرن الماضي وقرأتها فماذا وجدت؟ مانشيتات عن إنشاء كلية كاملة للإعلام!! وعناوين كتبت في الماضي وكأن الحاضر لم يأت ومشاكل لم يتغير فيها غير اكتساب المزيد من الوزن.
لم أهرب، حاولت وقاتلت، ولكن ما العمل والخصم بيئة عمل كاملة من الإهمال والترهل؟ أفرح وأبالغ في نشر الفرح كلما حصل تقدم إلى الأمام في أي شيء لأني كنت وما زلت مقتنعا أن الطاقة الإيجابية تحتوي على موجات تنتشر في الهواء وتنتقل من جسد لجسد.
العمل في الصحافة اليومية أمر مختلف، حيث يتعمق الاشتباك مع الأحداث في لحظاتها الأولى وداخل دائرة ضيقة ممن يعرفون الخبر، ولا يعرفه الناس إلا منشورا في اليوم التالي، حالة التكرار على مستوى البلد لا تختلف كثيرا عن الجامعة، ناس تأتي وناس ترحل، الأوهام نفسها والأكاذيب نفسها والشعارات نفسها وردات الفعل نفسها والتناقضات نفسها، ورصيد ركام الإخفاقات يزيد ولا ينقص حسب اجتهاد من اجتهد للوصول، ثم تفرغ لتطوير رصيده الشخصي و”طز” بالمكان ومن فيه.
طلبت النسيان فلم يأت، طلبت تغيير الفيلم المكرر الذي أعيشه ونعيشه جميعا ورفض طلبي، قبل أيام قليلة نكأت صورة يتيمة خزانا متورما في ذاكرتي اسمه “الثقة”، كان لموظفين يخرجون كالمهجرين من مبنى الهيئة العامة لمكافحة الفساد (المبطلة) مصطحبين معهم أغراضهم الشخصية وسط طوق أمني، يجدد لنا التأكيد أن الحل الأول لمشاكلنا هو “الحل الأمني” لا الجاهزية المتيقظة لحلها بدون شرطة ودوريات.
ها هو الفيلم المكرر يعيد نفسه، من بيدهم القرار أمامهم خياران وتاريخ معلوم، وتركوا الأمر حتى حصل الأسوأ، والأسوأ عندي ليس إبطال هيئة أوجدت بأداة استثنائية دون توافر حالة الضرورة، الأسوأ عندي هو أمران في غاية الأهمية: الأول هو المستقبل الوظيفي لصغار الموظفين- لأن الكبار “يدبرون نفسهم”– الذين وجدوا أنفسهم معلقين بين وظيفة تبخرت ووظيفة لم يعد من السهل العودة إليها، أما من تعينوا مباشرة في الهيئة المنحلة فكان الله في عونهم.
الأمر الثاني، وهو عام وشامل، وهو تعزز حالة عدم الثقة بأعمال وإجراءات مؤسسات الدولة لأنها خطر يتهدد استقرارها ومن ثم وجودها، لقد نجم عن حالة تبخر هيئة مكافحة الفساد، تكرس نموذج “الشاطر” الذي لعب لعبة الوقت ولم يسلم “ذمته المالية”، مستخفا بــــ”قشرة” يبدو أنه يعرف خفاياها أو تعلم من أخطاء من صدقوا “القشرة”.
في الختام أريد النسيان، هل من طريقة “شرعية”؟

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

إبراهيم المليفي

كاتب ومحرر في مجلة العربي الثقافية منذ 1999 وصاحب زاوية الأغلبية الصامتة بجريدة الجريدة منذ 2010

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *