د. شفيق ناظم الغبرا

حرب اليمن ومأزق التدخل العسكري

في الحرب ترتفع وتيرة الحشد الإعلامي، بل يمكن القول إن الحقيقة هي أول ضحايا الحرب عندما تقع بين دول وفئات ومجتمعات أهلية. وحرب اليمن لن تكون استثناء، فالكثير من المعلومات التي تقدم من قبل الأطراف تنقصها الدقة والوضوح، وهذا يجعلها حرباً تفتقر إلى دور الرأي العام ومعرفته ومتابعته الحقة.

لكن الحرب، تحمل في طياتها تناقضات جمة وتثير أسئلة وستترك آثار ستمهد للحرب التي تليها. فاليمن لن يستقر في المدى المنظور أو المتوسط، على رغم كل النوايا الإيجابية من أكثر من جانب، لأن إدارة الحرب وإستراتيجيتها ليست عملية سهلة وآيلة بطبيعتها لارتكاب الأخطاء مع الأنصار والمدنيين ومع الأعداء بنفس الوقت. والإستراتيجية الراهنة ستجعل اليمن معتمداً بصورة أكبر على الخليج، وهذا يمثل فارقاً بينها وبين إستراتيجية الولايات المتحدة في خطة مارشال بعد الحرب العالمية الثانية والتي سعت لجعل أوروبا أكثر استقلالية وقوة ومنعة.

إن سيناريو الصوملة في اليمن أقرب من سيناريو إعادة البناء. أتمنى أن أرى اليمن يعاد بناءه وأن تمسح عنه حالة الحرب والخوف، لكن المدى المنظور أقرب للتقسيم واستمرار العنف. يبدو من المقدمات بأنه لا يوجد حل عسكري للأزمة اليمنية، فالفوز سيكون بطعم الخسارة.

ارتبطت البذرة الأولى في الحالة التي أوصلت الأوضاع في اليمن إلى ما هي عليه قبل كل شيء بعدم استيعاب رسالة الشباب اليمني السلمية في التغيير والحريات والتي انطلقت مع الربيع العربي في ٢٠١١. تلك الرسالة الأولى كانت الأساس الذي أثار إعجاب العالم، فالحراك الشبابي اليمني تحمل قمع النظام بصبر ورد عليه بسلمية وحكمة. إن عدم تبني النظام العربي والخليجي لتلك الحالة التي تشكلت من ألوان المجتمع اليمني بما فيها اللون الحوثي في ظل الصفقة السلبية التي سمحت للرئيس السابق علي عبدالله صالح بالبقاء في الإطار اليمني فتح الباب لإضعاف شباب الثورة ومصادرة ثورتهم. كما أن المعركة التي فتحت بقوة على ”الإخوان المسلمين“ ودور الشعوب في ظل تطورات الثورة المضادة منذ تدخل الجيش المصري في الحياة السياسية المصرية في تموز (يوليو) ٢٠١٣ ساهم هو الآخر في إضعاف مكون هام من مكونات المجتمع اليمني مما فتح الباب أمام الحوثيين للسيطرة على اليمن.

لقد قرأ الحوثيون الأوضاع بصورة خاطئة وتمددوا على كل البلاد في ظل دعم الرئيس السابق علي صالح، وبهذا استفزوا أطرافاً خليجية وسعودية كان من الصعب أن تقف مكتوفة الأيدي، لكن من جهة أخرى لن يتحقق الاعتقاد بإمكانية تصفية الحوثيين وإخراجهم من المعادلة وفرض كل شروط القرارات الدولية عليهم هو الآخر. في كل ما يقع من مواجهة صفرية حتى الآن الخاسر الأول هو الشعب اليمني. فهناك أكثر من ٥٠٠٠ قتيل، ومئات الألوف من اللاجئين، يضاف إلى هذا انقطاع الخدمات والكهرباء، وهو ما يعني أن اليمن يواجه كارثة إنسانية صحية وحياتية. وهذا الوضع لن ينتهي بلا أثمان سلبية. فاليمن يتحول لمستودع عنف لن يفلت الإقليم من أثاره.

إن الوضع الراهن في ظل الحرب يحمل الكثير من الالتباسات. فالتحالف الذي تقوده المملكة العربية السعودية بكل مكوناته الخليجية والعربية لا يشترط أنه يرى ذات الوضع بنفس العدسات. فهناك قضية ”الإخوان المسلمين“ في اليمن وهم ضرورة للجبهة المتحالفة ضد الحوثيين (ولا يوجد إجماع خليجي على التعامل معهم)، كما هناك في الوقت ذاته منظمة القاعدة التي تستفيد من الموقف (من دون وجود تنسيق مسبق معها) وتسعى إلى تحقيق مكاسب في مناطق مختلفة من اليمن. وهناك في ذات الوقت الحراك الجنوبي الذي يطمح لتحقيق استقلال جنوب اليمن والتخلص من وحدته مع الشمال، وهناك أيضاً القبائل التي لم تضع كل ثقلها وراء هذه الجهة أو تلك.

ستتخذ حرب اليمن أشكالاً مختلفة، فهناك بُعد قبلي سيترك أثره عليها وستحقق «القاعدة» مكاسب وتنتشر في مناطق جديدة، أما الحكومة الشرعية فستكون حكومة ضعيفة أمام حراك الجنوب الانفصالي، وستكون ضعيفة أمام القبائل والتيارات المختلفة كما في العلاقة مع الحلفاء والممولين والحوثيين. حتى الآن ما زالت كل الأطراف الرئيسية على الساحة اليمينية في مواجهة صفرية، وهو ما سيسهم في اشتعال الوضع.

من جهة ثانية، يسيطر الحوثيون على أجزاء مهمة من اليمن وهم في الشمال وصنعاء بصورة أساسية. لكن آفاق خسارتهم لمناطق غنية وثروات في إقليم كمأرب سيضعهم في زاوية صعبة ما سيزيد استعدادهم للقتال ولإطالة أمد الحرب. من جهة أخرى للحوثيين قاعدة سكانية هامة، ستستمر هذه القاعدة في فرز قوى مسلحة ومواجهات وحرب عصابات في المناطق الوعرة في الشمال. وهذا يعني أن الحكومة الشرعية والقوات الخليجية التي ستتمدد باتجاه مناطق مختلفة وصولاً لصنعاء لن تستطيع البقاء فيها بلا مزيد من القوات البرية اليمنية والخليجية، لكن هذا سيتحول لمصدر خسائر لليمن وللخليج بالإضافة لاستنزاف مالي لا حدود له. ولو وقع هذا السيناريو في ظل غياب حل سياسي، فسيجد التحالف الخليجي بأن ضعف الحكومة الشرعية واعتمادها المبالغ به على الخليج سيبقى دول الخليج في حالة استنزاف عسكري واقتصادي في اليمن.

إن كل تدخل عسكري اسع النطاق في دولة ضعيفة مفككة يتحول لورطة أعمق، فالحرب تقود إلى معاناة إنسانية كبيرة وستجعل الفئات المتدخلة عسكرياً مسؤولة عن كل شيء. وبإمكان القوة المسلحة لدول الخليج والمقاومة الشعبية أن تحقق انتصارات وتنجح في تخفيف درجة العنف لمدة من الوقت، لكن في ظل غياب علاج المشكلة اليمنية السياسية بكل تناقضاتها وأبعادها سيعود العنف قوياً وستكون تعبيراته أكثر خطورة. فالسيطرة على أجزاء كبيرة من الأرض، كما تؤكد لنا التجربة العراقية، ليس ضمانة أمام قوة مصممة على التحدي كالحوثيين ولديها مواقع وعرة وجبلية تختبئ بها. لقد أصبحت مشكلة اليمن من الآن فصاعداً مشكلة خليجية بامتياز، وهذا يعني الحاجة إلى المزيد من الالتزام ومزيد من التواجد العسكري ومزيد من الجنود، وهذا سيدفع بالجميع إلى طرق مسدودة.

ما سبق مجرد سيناريو يتطور اليوم مع دخان الحرب في اليمن، ولا توجد طريقة لتفادي هذا المستنقع بلا مساومة وتسوية منصفة بين الأطراف. وهذا سيعني أن التسوية ستغض النظر عن ضرورة تسليم الحوثيين وتسليم غيرهم من القبائل الموالية وغير الموالية السلاح، وستترك للحوثيين دوراً في الدولة اليمنية وفي مناطقهم بالتحديد. إن البحث في حل سياسي لليمن يجب أن يكون أولوية لكل القوى. لا يمكن التقليل من حجم الإرادة في الساحة الخليجية، لكن الإرادة الجديدة ستحتاج معها لاستراتيجية اقتصادية وسياسية وتشاركية وتصالحية.

مكانة الشعوب والحقوق في الاستراتيجية الجديدة يجب أن تحظى بأولوية، لكن هذه الرؤية الإصلاحية الأوسع التي تؤسس لإقليم ديموقراطي ومن ضمنه يمن ديموقراطي لم تتطور بعد.

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

د. شفيق ناظم الغبرا

أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت
twitter: @shafeeqghabra

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *