احمد الصراف

الكوميديا السوداء

الكوميديا السوداء هي عمل كوميدي يختلط فيه الجد بالهزل، ويركز على أمور شديدة السوداوية ومثيرة للجدل، ولكنها تدفع إلى الضحك، وهنا مثالان:

1 – أوقفت مدمرة بريطانية قارب تجديف متهالكاً به أربعة أشخاص، وسأل القبطان ركاب القارب عن هويتهم ووجهتهم، فرد أحدهم قائلاً إنهم مسلمون، وفي طريقهم لغزو إنكلترا! وهنا ضحك القبطان والبحارة من حوله، وسألهم ثانية: أنتم الأربعة فقط، وتودون غزو إنكلترا، أين بقية جيشكم؟ فردوا عليه: نحن آخر أربعة. أما بقية الستة ملايين، فقد سبقونا!
***

2 – يقول فنان معروف: اتصل بي صديقي القسيس ليطلب مني التواجد في المقبرة للعزف على قبر رجل مشرد، كما تقتضي الطقوس الكنسية. لم أرده، فقد كنت دائماً أرحب بتقديم مثل تلك الخدمات المجانية، والتبرع بالعزف في مثل هذه المناسبات.

انطلقت بسيارتي نحو العنوان الذي أعطاه لي القسيس، ولكني تهت في الطريق، وكأي ذكر أخرق يرفض التنازل وسؤال أحد عن الاتجاه الصحيح، وهكذا وصلت متأخراً ساعة كاملة، بالتالي لم أجد سيارة نقل الموتى ولا صديقي القسيس، ولا أحد غير الهدوء الشامل الذي عادة ما يلف المقابر. أخذت أنظر حولي فوجدت قبراً لا يزال مفتوحاً، وأربعة من عمال المقبرة يحفرون حفرة أخرى غير بعيدة عنها. نظرت داخل القبر فوجدت بداخله تابوتاً من صفيح رخيص، وافترضت أنه تابوت ذلك المشرد الذي وضع فيه، ولم يتسن للعمال إهالة التراب عليه. وبما أنني وصلت، فقد قررت أن أعزف مقطوعتي لذلك المسكين، وأذهب لحال سبيلي. أخرجت آلتي وبدأت بالعزف، وأنا استعيد صورة ذلك المشرد بملابسه الرثة، وكيف عاش ومات من دون أن يلتفت إليه أحد، ولم يكن له أهل أو أصدقاء. وتذكرت آلامه ومعاناته، في ليالي الشتاء الباردة، وكيف كان يقضيها في عذاب مستمر. وأحسست أنني أعزف بحزن صادق، وأنني أسكب كل معاناة من خلال آلتي، وصورة ذلك المشرد لا تفارقني. وهنا ترك عمال المقبرة عملهم واقتربوا مني ووقفوا بخشوع حول القبر، ولسبب ما كان الحزن يلفهم جميعاً. وجودهم حولي أشعرني بأهمية ما كنت أقوم به. ولكن ما إن وصلت لنهاية عزف لحن «الوداع الأخير»، حتى بدأت الدموع تنهال من عيني أحدهم، وشاركه آخر، ثم بدأ الأربعة بالبكاء، فلم أستطع أنا، أيضاً، مغالبة دموعي وهي تنهمر، وأنا أتذكر جسد ذلك المسكين المسجى في ذلك الصندوق الحديدي البارد. توقفت بعد أن شعرت بالإرهاق، وحملت آلتي ونظرت نحو العمال، شاكراً مشاركتهم لي في وداع رجل لم يعرفوه، واتجهت نحو سيارتي، وهنا سمعت أحدهم يقول: هذا أمر عجيب. لقد عملت طوال حياتي في وضع خزانات مياه المجاري الحديدية تحت الأرض، وطمرها، ولكني لم أمر بتجربة مثل هذه على مدى 25 عاماً!

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

احمد الصراف

إدارة الإعمال – جامعة الدول العربية – بيروت 1974 / الدراسات المصرفية والتدريب في بنك باركليز – لندن 1968 / البنك الوطني في فيلادلفيا – فيلادلفيا 1978 / الإدارة المصرفية – كلية وارتون – فيلادلفيا 1978
email: [email protected]

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *