أ.د. محمد إبراهيم السقا

هل تستخدم الاحتياطيات في تمويل العجز المالي لدول الخليج؟

أصبحت المستويات المرتفعة للعجز المالي لدول مجلس التعاون مثيرة للقلق هذه الأيام، أخذا في الاعتبار السيناريوهات المتوقعة لها إذا استمرت الأسعار منخفضة. فقد مرت السنة الماضية كما يبدو دون تأثيرات جوهرية للعجز، على الأقل حتى الآن، ومع ذلك ففي رأيي أن الوضع الحرج ربما تتضح ملامحه في السنة المالية المقبلة والسنوات التي تليها إذا ما استمرت أسعار النفط منخفضة. السؤال الذي يطرح نفسه في ظل هذه الظروف هو: ماذا يحدث إذا استمرت الأسعار منخفضة، وتصاعد عجز الدول الخليجية، وكيف ستمول الدول الخليجية عجزها المالي؟

لا شك أن هناك عدة خيارات أمام الدول الخليجية للتعامل مع تمويل عجز الميزانية العامة فيها، وأهم هذه الخيارات هو الاقتراض من السوق المحلية، بصفة خاصة من القطاع المالي، بما لديه من فوائض سيولة، ومن جانب آخر يمكن لهذه الدول أن تقوم بالاقتراض من الخارج مستفيدة من تصنيفاتها الائتمانية المرتفعة، أو أن تستنفد احتياطياتها التي تراكمت عبر سنوات الفائض، والتي كونتها أساسا لمثل هذا اليوم.

من الواضح حتى الآن أن الاتجاه العام في دول الخليج هو تكثيف الاعتماد على السحب من الاحتياطيات لتمويل العجز، فهذا ما فعلته تلك الدول في السنة المالية الحالية على الأقل، ولكن هل تستمر تلك الدول في استهلاك احتياطياتها المالية لتمويل عجزها المالي؟ وهل للاحتياطيات المالية أهمية؟ وما المستوى المناسب للاحتياطيات؟ سأحاول الإجابة في هذا المقال عن تلك الأسئلة، مسترجعا الدروس العالمية في تكثيف استخدام احتياطيات النقد الأجنبي.

لا شك أن أهم المحطات التاريخية التي تبرز أهمية الاحتياطيات هي الأزمة الآسيوية، حينما تدهورت الاحتياطيات الخارجية لدول جنوب شرق آسيا واضعة اقتصادات هذه الدول على المحك، بعد أن كان يطلق عليها تسمية النمور الآسيوية. لم تعان هذه الدول صدمة لحساباتها الخارجية وعملاتها مثلما حدث أثناء تلك الأزمة.

فقد اضطرت هذه الدول إلى الذهاب إلى صندوق النقد الدولي طلبا للمساعدة على مواجهة صعوباتها الاقتصادية الناشئة عن تآكل احتياطياتها من النقد الأجنبي، واضطرت إلى إبرام اتفاقيات مساندة مع الصندوق بمقتضاها تمت مراجعة سياساتها الاقتصادية الكلية وإملاء حزم من السياسات الإصلاحية عليها، تمثل أقساها في إلزام هذه الدول بالسيطرة على إنفاقها العام واتباع ما سمي وقتها سياسة شد الحزام “التقشف”، وقد كان لهذه الإجراءات لها تبعات سياسية واجتماعية خطيرة، لدرجة أن بعض الأنظمة سقطت في خضم هذه العملية مثلما حدث مع نظام سوهارتو في إندونيسيا، أكثر من ذلك فقد ظلت معظم هذه الدول تكافح لسنوات تبعات الأزمة حتى تخلصت منها.

منذ ذلك اليوم، ونظرا للصعوبات التي واجهتها هذه الدول خلال الأزمة، ونتيجة للسياسات التقشفية الناجمة عن برامج المساندة من صندوق النقد الدولي، تحول اتجاه هذه الدول نحو تأمين نفسها من مخاطر اللجوء مرة أخرى إلى الصندوق، وذلك عن طريق تراكم احتياطياتها الخارجية من النقد الأجنبي لمواجهة مخاطر نقص السيولة.

لعل من التجارب الغنية أيضا ما واجهته الهند في 1991، حيث تراجعت احتياطياتها بصورة سريعة حتى بلغت نحو مليار دولار فقط، وفي غضون أسابيع تالية انخفضت إلى مستويات لا تغطي واردات الهند الأساسية سوى ثلاثة أسابيع تقريبا، وأصبح من الواضح أن الهند في سبيلها للتخلف عن خدمة التزاماتها الخارجية. في ظل هذه الظروف اضطرت الهند إلى اللجوء إلى صندوق النقد الدولي لتأمين 2.2 مليار دولار كقرض طارئ في مقابل شحن نحو 67 طنا من الذهب كرهن لهذا القرض، واضطرت الهند إلى تخفيض قيمة عملتها بصورة حادة، ونتيجة لذلك استقالت الحكومة الهندية. منذ ذلك اليوم والهند تراكم احتياطياتها من النقد الأجنبي عند مستويات كافية حتى لا تضطر إلى أن تعيش هذه التجربة القاسية مرة أخرى.

من جانب آخر فقد أثبتت الأزمة المالية العالمية أن الدول التي لديها احتياطيات كافية من النقد الأجنبي استطاعت أن تتعامل بصورة أفضل مع تداعيات الأزمة، فالدول ينطبق عليها في هذا الوضع ما ينطبق على الأفراد، فالفرد الذي لديه مدخرات كافية يستطيع التعامل بصورة أفضل مع تداعيات انقطاع دخله، مقارنة بالشخص الذي لا يملك مدخرات كافية تعينه على مواجهة تبعات التحول من موظف إلى عاطل مثلا.

اليوم تحولت نظرة العالم للاحتياطيات الدولية على نحو جوهري، وأصبح ينظر إليها على أنها تمثل وثيقة التأمين التي يمكن أن تلجأ إليها الدول في أوقات أزماتها، وخط الدفاع الأول ضد عمليات الخروج السريع لرؤوس الأموال، خصوصا بعد أن أصبحت تحركات رؤوس الأموال الساخنة أكثر استجابة للتطورات الاقتصادية في دول العالم. فارتفاع احتياطيات دولة ما من النقد الأجنبي يضعف احتمالات أن تتعرض لعمليات خروج سريعة لرؤوس الأموال، بينما يؤدي تراجع الاحتياطيات إلى بطء حركة دخول الأموال، وتسريع حركة خروجها. لذلك أصبح من المتفق عليه بين المراقبين اليوم أن حجم الاحتياطيات قد لا يعد مؤشر الأمان الأساسي أمام عمليات سرعة خروج الأموال، وإنما الأكثر أهمية اليوم هو اتجاه الاحتياطيات ومعدلات تراجعها، فمهما كان حجم الاحتياطيات فإن التراجع السريع لها يعني أن مخاطر تآكلها ترتفع، وبالتالي ترتفع معدلات خروج رؤوس الأموال.

ولكن ماذا يعني ذلك بالنسبة لنا هنا في الخليج؟ إن ذلك يقودنا إلى نتيجة في غاية الأهمية وهي ضرورة إدارة الاحتياطيات على نحو حذر جدا، حيث تظل دائما في وضع آمن. ذلك أن السماح بالهبوط السريع لاحتياطيات دول الخليج وبمعدلات تتوافق مع الحاجة إلى تمويل العجز قد تترتب عليه نتائج خطيرة فيما يتعلق باستقرارها المالي والنقدي، ومن ثم فإنه لابد من برمجة عمليات السحب على النحو الذي يضمن استقرار أوضاعها المالية والنقدية.

ولكن ما المستوى الآمن لهذه الاحتياطيات؟ ليس هناك في الواقع اتفاق على مستوى آمن لهذه الاحتياطيات، فسابقا نظر إلى المستوى الآمن على أنه ذلك الذي يغطي ستة أشهر من واردات الدولة، لكن الأزمة الآسيوية ألقت ظلالا كثيفة على هذا المؤشر، وأصبحت نسبة الاحتياطيات إلى الدين قصيرة الأجل “سنة أو أقل” هي الأهم في تحديد المستويات الآمنة لها. كذلك نظر إلى المستوى الآمن للاحتياطيات على أنه الذي يكفي لمواجهة التزامات الديون على الدولة لمدة عام، وهكذا.

قد لا يبدو الحديث عن التزامات الدول الخليجية في مواجهة الديون مناسبا في الوقت الحالي، ولكن في ظل الأوضاع الحالية، فإن الديون قادمة لا محالة. من جانب آخر فإن وضع الاحتياطيات في الدول الخليجية له أهمية خاصة باعتبار أن هذه الدول تربط عملاتها بالدولار، ومن ثم فهي ملتزمة بالدفاع عن عملاتها ضد التقلبات في سوق النقد الأجنبي التي يمكن أن تؤثر في قيمتها، لذلك فإن الاحتفاظ باحتياطيات كافية لإدارة الطلب والعرض في سوق العملات مسألة حرجة، حتى لا تتدهور معدلات صرف عملاتها عن المستويات المحددة وفقا لآلية الربط.

خلاصة ما سبق أن على دول الخليج أن تتنبه إلى ضرورة الحفاظ على احتياطياتها وألا تكثف من استخدام تلك الاحتياطيات في تمويل عجز ميزانياتها العامة، وأن تحدث نوعا من التوازن في تنويع مصادر التمويل بين السحب من الاحتياطيات والاقتراض المحلي والخارجي على النحو الذي يحافظ على احتياطياتها عند مستويات مرتفعة، وألا تقلق من تزايد التزاماتها الأخرى في مواجهة الاحتياطيات، ففي النهاية تعد الاحتياطيات المرتفعة صمام الأمان أمام تزايد الالتزامات الأخرى، وخط الدفاع الأول عن قيمة عملاتها والذراع الأساسية لمواجهة تأثيرات المضاربة عليها.

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

أ.د. محمد إبراهيم السقا

أستاذ الاقتصاد – جامعة الكويت
[email protected]
@elsakka

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *