أ.د. محمد إبراهيم السقا

هل أصبح المركز الدولي للدولار مهددا؟

كما توقع العالم، أعلن صندوق النقد الدولي هذا الأسبوع عن إدراج عملة الرينمنبي الصيني (المعروف باليوان) ضمن سلة عملات وحدة حقوق السحب الخاصة. لمن ليس لديه خلفية، حقوق السحب الخاصة هي عملة حسابية يصدرها صندوق النقد الدولي وتوزع على أعضائه عند إصدارها وفقا لحصة كل عضو في رأسمال الصندوق، ويقتصر استخدامها على المستوى الرسمي، أي بين البنوك المركزية بعضها البعض. وقد كانت إحدى المحاولات غير الموفقة التي قام بها صندوق النقد الدولي في نهاية الستينيات لفك قيود السيولة الدولية. كما جرت محاولة أخرى بواسطة الصين وروسيا بعد الأزمة مباشرة للدفع في اتجاه تفعيل دورها كعملة احتياط عالمية لتحل محل الدولار، ولكن هذه المحاولة فشلت أيضا.

قبل إدراج الرينمنبي أعلن صندوق النقد الدولي في مايو الماضي أن الرينمنبي عملة مقومة بصورة عادلة، وأنه لا مغالاة في تقدير قيمتها على النحو الذي يثار من وقت لآخر، منهيا بذلك الجدل الدائر حول تقييم الرينمنبي بأقل من قيمته، وهي الحجة التي يثيرها الكونجرس من وقت لآخر داعيا الخزانة الأمريكية لإثبات ذلك في تقاريرها عن سياسات الصرف الأجنبي في العالم، وعلى النحو الذي يمهد لفرض قيود تجارية على حركة الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة. خطوة إدراج الرينمنبي ضمن سلة عملات حقوق السحب الخاصة هي خطوة كانت ستحدث في وقت ما آجلا أو عاجلا، نظرا لأن التطورات الاقتصادية في الصين هي التي فرضت على صندوق النقد الدولي الأخذ بهذه الخطوة. اختيار الرينمنبي ينبع أساسا من أداء الصين على الأرض، باعتبارها أكبر مصدري العالم، وصاحبة أكبر اقتصاد فيه (بتعادل القوة الشرائية)، وثاني أكبر اقتصاد بأسعار السوق، ورغم ذلك فإن الوزن الذي يحتله الرينمنبي في المدفوعات الدولية منخفض للغاية ولا يعبر عن هذا الأداء، اللهم فيما عدا الدور الذي يلعبه كعملة تسوية بين الصين وشركائها التجاريين والذي يساوي ربع تجارة الصين الخارجية تقريبا. أي أن اتساع مشاركة الرينمنبي في التسويات الدولية يتم أساسا من خلال مصارف للمقاصة التي لديها وصول إلى مصادر السيولة بالرينمنبي في الصين، الأمر الذي يساعد على توسيع استخدامه في مراكز الأوفشور.

وفي رأيي أن الإدراج في حد ذاته ليس بالأهمية ذاتها التي تتطلب مثل هذه الضجة العالمية التي أثيرت حول قرار صندوق النقد الدولي. الإدراج هو مجرد تقدير رمزي لعملة استخدامها الدولي ضعيف جدا في الأساس، وهناك مبالغة كبيرة في الحديث عن أهميتها، ولكن الأهم في هذا الموضوع هو تبعات هذا الإدراج على الصين وعلى الدولار، وهذا هو منبع هذه الضجة.

قبل انضمام الرينمنبي إلى سلة عملات حقوق السحب الخاصة، كان معدل صرفها يعتمد على الدولار والجنيه الاسترليني واليورو والين الياباني، وتتركز أوزان السلة أساسا في الدولار الأمريكي واليورو، ولذلك تم اقتطاع الوزن الخاص بالرينمنبي، والذي يقتصر في الوقت الحالي، وفقا لما أعلنه الصندوق على 10.92 في المائة من مجموع الأوزان (100)، أساسا من وزن الجنيه الإسترليني والين الياباني.

إقدام الصين على هذه الخطوة يعني أن الصين تدفع بعملتها بشكل أكبر لكي تلعب دورا يعبر عن أهمية الاقتصاد الصيني ووزنه في التجارة العالمية. غير أنه لكي يستمر الرينمنبي ضمن سلة عملات وحدة حقوق السحب الخاصة لا بد أن يتحرر نظام تحديد معدل صرفه، وهو ما أشار إليه تقرير صندوق النقد الدولي، بأن الرينمنبي سيصبح عملة حرة بحلول 2016. في رأيي أن التزام الصين بتحرير معدل صرف الرينمنبي سوف يكون مكلفا للصين، وتقلب الرينمنبي سوف يكون سياسة جديدة تماما على الصين، وربما قد يكون فخا وقعت فيه لإنهاء سياسات بخس قيمة الرينمنبي، وأشك في أن الصين قد تكون جادة في التزاماتها نحو التحرير الكامل للرينمنبي في غضون هذه الفترة القصيرة.

إذا كانت الصين جادة في أن توفي بتعهداتها بتحرير الرينمنبي، فسوف نرى الرينمنبي عملة تتحدد بقوى السوق، وأعتقد أنها سوف تدفع دفعا لذلك، لأن الصندوق لن يدرج عملة تتحدد قيمتها رسميا ضمن سلة لعملة يفترض أنها تتغير وفقا لقوى السوق من العرض والطلب. من جانب آخر، فإن تحرير قيمة العملة سوف يقتضي بالتبعية ضرورة تحرير حساب رأس المال أي تدفقات رؤوس الأموال من وإلى الصين بشكل كامل، وهو أحد المستلزمات الأساسية لكي يتحول الرينمنبي إلى عملة دولية.

المشكلة الأساسية في تحرير الرينمنبي أنه سوف يعقد أوضاع النمو على نحو أكبر، فمن المتوقع أن يصحبه ارتفاع في قيمته أمام الدولار، بما يعكس طبيعة الفوائض الكبيرة التي تحققها الصين في حسابها الجاري، وهو ما سينعكس سلبا على صادراتها إلى الخارج. هذا التطور يأتي في التوقيت الخطأ تماما بالنسبة للصين، حيث تتراجع معدلات النمو في الوقت الحالي إلى الحد الذي دفع بالرئيس الصيني إلى الإعلان عن تبني مستهدفات أكثر تواضعا للنمو عن تلك التي كانت مستهدفة سابقا، فالصين تحتاج الى أن يستمر الرينمنبي ضعيفا حتى تتمكن من تعديل اتجاهات النمو المتراجع حاليا، ولذلك ومنذ بداية هذا العام تطلب الأمر تخلي الصين عن نحو 600 مليار دولار من احتياطياتها من أجل الدفاع عن الرينمنبي أمام الدولار.

ولكن ما أهمية هذه الخطوة من جانب صندوق النقد الدولي بالنسبة للصين؟ الإجابة هي أن هذه الخطوة من المفترض أنها ستسمح للرينمنبي بأن يتحول إلى عملة احتياط دولية، مثله مثل الدولار وبقية العملات الرئيسة في العالم، ولكن الدولار حاليا يتربع على عرش العملات الاحتياطية في العالم، وبالطبع فإن دخول الرينمنبي قائمة العملات الاحتياطية سوف يعني تراجع الأوزان النسبية للعملات الرئيسة في الاحتياطيات الدولية للبنوك المركزية في العالم في الوقت الحالي، والتي بالطبع من بينها الدولار.

الخطوة التالية التي يمكن أن تؤثر في الوضع الدولي للدولار هي أن تنجح الصين في استخدام الرينمنبي في عمليات تسعير السلع الدولية، وما قد يساعد الصين في ذلك هو مركزها كأكبر مستورد لعديد من السلع التجارية في العالم مثل المعادن، وحصتها الضخمة في التجارة الدولية، لكن تسعير السلع الدولية كالذهب والنفط وغيرها بالرينمنبي سوف يعني وجود نظام مزدوج للتسعير بالدولار والرينمنبي، وهو ما قد يخلق مشكلات تجارية عندما تتقلب هاتان العملتان بصورة معاكسة في أسواق الصرف الأجنبي.

أخيرا أعود للسؤال الذي طرحته في عنوان هذا المقال، هل إدراج الرينمنبي في سلة عملات حقوق السحب الخاصة سوف يعني بالفعل أن مركز الدولار عالميا أصبح مهددا؟ وهل سنشهد بالفعل تراجعا في استخدام الدولار كعملة عالمية لمصلحة الرينمنبي؟ الإجابة في رأيي هي لا، فالرينمنبي بأوضاع الصين الحالية ونظامها المالي والمصرفي وطبيعة سوق رأس المال فيها لا يمكن أن يمنح الرينمنبي خاصية تبوؤ مركز عملة الاحتياط الأولى في العالم، فالعملة الاحتياطية العالمية تحتاج إلى أن يكون معدل صرفها حرا وهذا ما تعهدت به الصين، وأن يتم تدويل هذه العملة، أي أن يتم استخدامها على نطاق واسع عالميا كوسيط للتبادل ووحدة للحساب، وهذا ما تعمل عليه الصين حاليا، أما ثالث هذه الشروط وهو الأهم، فهو أن تكون أسواق المال فيها متسعة، وعميقة، وتتمتع بالسيولة الضخمة، وهذا الشرط لا يتوافر حاليا في العالم سوى في سوق مال واحد هو سوق المال الأمريكي، فبالنظر الى طبيعة أسواق المال الصينية في الوقت الحالي، فإن الصين أمامها عقود لكي تتمكن من توفير سوق المال الذي يساند عملة الاحتياط الأولى في العالم، وعلى ذلك فإن إدراج الرينمنبي، كما سبق أن ذكرت، ربما يظل إجراء رمزيا لوقت طويل، وسيظل الدولار يليه اليورو هما عملتا الاحتياطي العالمي الرئيستان لعقود قادمة.

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

أ.د. محمد إبراهيم السقا

أستاذ الاقتصاد – جامعة الكويت
[email protected]
@elsakka

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *