د.علي يوسف السند

تراثنا بين العبث والاجتهاد

الاجتهاد.. التجديد.. البحث العلمي.. حرية الرأي والتفكير.. نقد الموروث، كلها معان جميلة تحمل في طياتها دعوة للنهضة والتقدم، لكن أكثر من جنى عليها هم أكثر الناس حديثا عنها، ودعوة لها، وتباكيا عليها، فكانت النتيجة عكسية، حيث اكتست تلك المعاني صبغة التمرد والعبث والإقصاء، وسلخ المجتمع من هويته، وفصله عن ماضيه وثقافته، فصارت تلك المعاني الجميلة ملطخة بالممارسات الخاطئة للذين يرفعون شعاراتها!
دراسة التراث ليست نزهة، ولا عملا هامشيا تصرف له فضول الأوقات، فتراث المسلمين، الذي هو حصيلة تراكمات معرفية على مدى 1400 سنة في مختلف المجالات والتخصصات، لا ينبغي أن يكون مادة في يد العابثين، أو ممتهني الاستعراض الإعلامي، والبحث عن الأضواء، ولا أن يتحول نقد التراث إلى تقليعة يتظاهر الإنسان من ورائها بالذكاء والشجاعة والتمرد على الواقع، ولا أن يكون ردة فعل عنيفة وعاطفية لواقع سيئ يُراد تغييره، بل يجب أن يتسم البحث فيه ونقده بالجدية والرصانة والعمق، بعد التسلح بالأدوات العلمية والمعرفية التي تؤهل الإنسان للقيام بمهمة البحث العلمي الرصين.
قيل: من تحدث في غير فنه أتى بالعجائب، لذلك من الملاحظ أن كثيرا ممن رفع لواء التجديد ونقد التراث، وخاض في هذا البحر، لم يكن من أهل هذه الصنعة، ولم يتسلح بالأدوات العلمية المطلوبة لمثل هذه المهمة، وإنما دخل في هذا المجال بانطباعات أولية وأحكام مسبقة، جعلته يقرر النتيجة أولا، ثم يبحث في التراث عمّا يعززها، وبالتالي وقع كثير منهم بفضائح علمية واختلالات منهجية، لا تمت إلى البحث والاجتهاد والتجديد بصلة، وجعلت الناس ينفرون من هذه الدعوات وينظرون إليها بعين الريبة، بسبب حصول ما يشبه العلاقة الشرطية بين الدعوة للاجتهاد والتجديد، بين ذلك العبث والاختلال.
المضحك المبكي أن كثيرا ممن ركبوا موجة «نقد الموروث» يتقمصون شخصية مارتن لوثر، باعتبارهم سيخلصون الدين من سلطة الكهنوت، وسيحررونه من احتكار رجال الدين، فإذا رفض الناس طروحاتهم الهزيلة، أو نقض المتخصصون ممارساتهم العبثية، يتحولون فجأة إلى لعب دور ضحايا حرية الفكر، وشهداء البحث العلمي، في محاولة مستميتة ومكشوفة لاستدعاء واستنساخ التجربة الأوروبية في التخلص من هيمنة رجال الدين على الشأن العام.
من المقرر عقلاً أن «الحكم على الشيء فرع عن تصوره»، والاجتهاد في أي فن أو علم يقتضي الإحاطة به، وإلا تحول إلى عمل غير عقلاني، وقد دأب العلماء على ختم كتبهم في أصول الفقه بالحديث عن الاجتهاد في الدين، وحكمه وشروطه ومتطلباته، حتى لا يقع من غيره أهله، وفي غير محله، فيكون وبالاً على صاحبه!

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

د.علي يوسف السند

دكتوراه فلسفة إسلامية – بكالوريوس شريعة – عضو هيئة تدريس/الدراسات الإسلامية – إعلامي وكاتب صحفي
twitter: @al_snd

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *