يوسف عباس شمساه

مجرد ذكرى

حين تمس الفواجع والمصائب الأليمة جسد الوطن وتثكله، وتنزع منه أرواح مواطنيه ومقيميه، وتحول أمانه إلى رعب، وحياته إلى أسر، وعبق زهوره إلى رائحة بارود، ونهاره إلى ليل، كالغزو العراقي الغاشم على الكويت في الثاني من أغسطس، والذي تطل علينا هذه الأيام ذكراه الـ 25، حين تمس الوطن فاجعة كهذه، تكون علامة فارقة في تاريخ الوطن، وأيقونة صمود ومقاومة، خصوصاً عندما يسطر الشعب أسمى المعاني وأبهرها في تكاتفه وبطولته وبسالته بالتصدي لهذا العدوان، وتضحيته بالمال والنفس والبنين، لإرجاع شرعية وطنه والحفاظ على استقلاله، وتفضيل سلب كل ما لديه من غالٍ ونفيس على ألا يرى علم ورمز وطنه يُداس بأقدام العدو، فهو بذلك، إلى جانب قيامه بواجبه الوطني، يخلق مناخاً تعليمياً وطنياً ثقافياً تقدمياً، يهيئ لنا خطوته القادمة بصناعة جيل يعمل من أجل مصيره المشترك، فينبذ كل أشكال التعصب والفرقة، ويحول سواد مصابه إلى بياض التقدم والتطلع والنهضة.

وهناك من الدول من شاهدنا دخولها في محنة أشد وأشقى من غزو العراق لبلدنا، إلا أنها خرجت منها بدافع وقوة أوصلاها إلى مرتبة عظيمة من التقدم والتطور، حيث إنها لا تزال تحيي ذكرى كوارثها، وتجددها باستذكار الأرواح التي فقدت، والدماء التي سالت، كي تذكر نفسها وشعوبها، بأن الحياة لن تطول بذرف الدموع والتناحر وإشاعة الكراهية، بل لن تكون هناك حياة، إذا لم نترجم التكاتف في الشدة إلى تعايش وتسامح وعمل وجد واجتهاد في الرخاء.

لكن، كحال غيرها من القواعد، فهذه القاعدة الحياتية الأساسية غير معروفة في الكويت، بل إنها غير قابلة للطرح أساساً، لأن الغزو أصبح عبارة عن فترة زمنية فاصلة بين حياة المواطنة سابقاً وحياة التفكك والتعصب حالياً، فكل جميل عرف به أهل الكويت فترة ما قبل الغزو انطفأ مع إطفاء آخر بئر مشتعلة، وخفت بريق الكويت كدرة للخليج، وأصبح ناسها أسرى ماضٍ لا يريدون تجاوزه.

الحال بعد 25 سنة سيئة جداً، فالغزو أصبح مجرَّد ذكرى، وذكرى مريرة جدا، لم تقدّر الدولة تضحية رجال ونساء هذا الوطن فداء له، ولم تسعَ حتى لتخليد ذكراهم، فكم من شارع أو مدرسة أو حتى «منطقة» سميت تيمناً بهؤلاء الأبطال؟ وفضلاً عن أن مناهج الكويت التعليمية تخلو من ذكر بسالة أبطالنا، بات الشهداء مادة إعلامية لنصف يوم فقط في كل سنة تذكر أسماء بعضهم بتواضع وخجل لتبرئة الذمة.

أما في ما يخص الشعب، فلغة التعصب والطائفية والقبلية سائدة عليه، أصبح يتعارك مع بعضه، في ما إذا كان غزو صدامياً أو عراقياً، يخون هنا، ويوزع صكوك الوطنية والمواطنة هناك، يستشهد بتاريخ الكويت الجامع لكل أطيافه، وهو لا يتقبل أن يبادل السلام لمخالفيه، تجديده لذكرى الغزو أصبح بين تمجيد وتقديس لأشخاص، وبين ترديده لمقوله «لن ننسى»، حتى أصبح كارهاً لشعب بأكمله، وغير قادر على التعلم من هذه المحنة، والمضي قدما نحو النهضة والتطور والعمران الذي يفترض أن يحدثه.

الحال لا تسر أبداً، مادام الشعب ينتظر وقوع فاجعة، كي يرد بصره، ويفوق من غيبته، ويلتحم مع بعضه.

آخر مقالات الكاتب:

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *