جمال خاشقجي

أبو بكر الصديق في مواجهة الفكر المتطرف

كيف يجيز شاب سعودي نشأ متقلباً في علوم الدين، الغدر بمقيم مسيحي مستأمَن لا يعرفه ولا يعرف ما يفعل في بلاده؟ يقتله فقط لأنه أوروبي أشقر على غير دين الإسلام!

لا بد أنه سمع عن قول العلماء بحرمة استهداف المستأمَنين، حتى أولئك العلماء الذين عجزوا عن مصالحة «النص» بالسيرة وواقع الحضارة الإسلامية المتسامح، ولا يزالون يفتون ببغض الكفار فيقولون: «لا تحبوهم في قلوبكم ولكن لا تعتدوا عليهم»، فهم على رغم تعصبهم المقيت لا يجيزون ذلك، إنهم يكتفون بالقول: «اكرهه ولكن لا تقتله». منطق عجيب ومن أسباب الغلو ويستحق المواجهة الفكرية، ولكن يبدو أن المواجهة الأمنية مع ذاك الشاب وأمثاله، المستعدين لقتل إنسان مسالم لمجرد أنه غير مسلم وأشقر اللون، ادعاء واهم.

حملت معي هذا السؤال وأنا أتابع شريط «أنصار الدولة الإسلامية» وهم يتفاخرون باستهدافهم قبل أسابيع مواطناً دنماركياً على الطريق السريع خارج الرياض، ويقولون إن هذا «أول الغيث» والقادم أكثر، أي «إننا سنقتل ونعتدي على مزيد من الغربيين إن غفت عنا أنظار الأمن السعودي»، الذي لن يفعل بالتأكيد، إذ بحث عنهم حتى اعتقل ثلاثة منهم أول من أمس.

قبل أن أجد الإجابة، صدمتنا حادثة أخرى تحمل سؤالاً مماثلاً: كيف أجازت تلك المسلمة الإماراتية المنقبة لنفسها أن تحمل سكيناً حادة وتمضي بها إلى سوق تجارية في أبوظبي، نظرت حولها فرأت سيدة شقراء، فقررت أنها ضحيتها! تبعتها إلى دورة مياه نسائية، هل سألتها أولاً: هل أنت أميركية؟ ما هو دينك؟ هل فكرْتِ بدخول الإسلام؟ هل تؤيدين إسرائيل؟ هل صوتِّ لجورج بوش؟ لا نعرف! كل ما نعرفه أنها طعنتها بالسكين وتركتها تنزف وهرولت خارج المكان والدم يقطر منها. لا بد أنها تعلم أن ما فعلته حرام حتى لو أجابت الضحية البريئة بالإيجاب على معظم أسئلتها، ناهيك عن لاأخلاقيته وجبنه، فحتى لو كانت حال حرب فلا يجوز لها أن تقتل مدنياً مسالماً.

لا بد أن هذه السيدة سألت يوماً عن حكم نتف الحواجب، فلماذا لم تسأل «ما حكم قتل أميركية لا أعرفها في سوق تجارية؟ ما الذي يحصل؟ ماذا أصاب العقل المسلم؟ هل هو الغضب؟ معظمنا غاضب ولكننا لا نقتل.

فقهاء «الدولة الإسلامية» هم الوحيدون الذين أفتوا بقتل المدنيين الغربيين «عميانياً»، بينما لا تجد أياً من فقهاء الأمة، حتى الذين تكرههم الحكومات المحلية، يفتي بأمر قبيح كهذا، لكن «الداعشيين» لا يحترمون غير علمائهم المزعومين ويعتقدون أن غيرهم «علماء سلطان»، أو «مضيِّعون» أو «قواعد»، إلى آخر قائمة النعوت الكريهة لإلغاء دور العلماء.

ولكن ماذا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه؟

إنه أول السلف وخيرهم، وهو الذي تنسب إليه أول وثيقة في قواعد أخلاقيات الحرب، سبق بها اتفاق جنيف، ويرفض بالتأكيد جل ما تصنع «داعش» وأهلها، وفق النص الحرفي لوصيته الى أسامة بن زيد قبل خروجه للحرب. ولكن قبل أن نستمع إليه، سأنقل كلاماً سقيماً للشيخ (والشيخ من عندهم) أبو محمد العدناني المتحدث باسم تنظيم «الدولة الإسلامية» يطالب فيه من سماهم أنصار دولته بقتل الغربيين المدنيين في بيوتهم وشوارعهم، ليَظهر الفرق الهائل بين الإسلام الحقيقي الذي يعبر عنه أول السلف، وهذه السلفية المزعومة. تصدَّر كلام العدناني شريط «أول الغيث» الذي تبنى فيه أنصار «الدولة الإسلامية» في السعودية محاولة اغتيال المواطن الدنماركي.

وجّه العدناني في كلمته الصوتية نداءه إلى «الموحدين في أوروبا وأميركا وكندا» ثم عرج على أهل الجزائر والمغرب، وأهل الولاء والبراء وأنصار الدولة الإسلامية في كل مكان، قائلاً لهم: «خذِّلْ عن إخوانك ودولتك ما استطعت أن تبذل جهدك، في قتل أي كافر أميركي وفرنسي وأيّ من حلفائهم، وإن عجزت عن العبوة والرصاصة فاستفرد بالأميركي أو الفرنسي الكافر وارضخ رأسه بحجر، أو انحره بسكين، أو ادهسه بالسيارة أو ارمه من شاهق أو اكتم أنفاسه أو دسّ له السم (….) إن عجزت فأحرق منزله أو تجارته أو أتلف زراعته، وإن عجزت فابصق في وجهه». هل في ما سبق شيء من أخلاق الحرب وفروسيتها؟ أحسب أنهم حتى في الجاهلية لا يقبلون بغدر كهذا واستهداف أعمى للمدنيين، إنها وصفة كراهية، تمزق أي مجتمع، تضر بالمسلمين هناك أكثر مما تضر بالغرب بعد أن صوِّروا «زامبيز» متوحشين يقتلون كل من يقابلهم في الطرقات. لكن الكارثة هي كيف يقتنع مسلم يعتقد بأنه متدين بخطاب فج كهذا؟ ومن شخص لا يعرف عنه إلا القليل، سوري قاتل في العراق منذ 2005 اسمه الحقيقي طه صبحي فلاحة، اعتقله الأميركيون ثم أطلقوا سراحه؟؟! كيف يستجيب لحفلة القتل والكراهية التي يدعوه إليها هذا النكرة، وبين يديه تراث هائل من التسامح الإسلامي؟

لنقرأ الآن ما نصح به خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأول السلف الصالح أبو بكر الصديق، قائد جيشه وهو يغادر المدينة: «ستجد قوماً زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له، وإني موصيك بعشر: لا تقتلنّ امرأة ولا صبياً ولا كبيراً ولا هرماً، ولا تقطعنّ شجراً مثمراً، ولا تخربنّ عامراً، ولا تعقرنّ شاة ولا بعيراً إلا لمأكلة، ولا تحرقنّ نخلاً ولا تفرقنّه، ولا تغلل، ولا تجبن».

خطبة بليغة، وقواعد أخلاقية لا تحتمل تأويلاً، ويفترض أن تكون مثل عصا موسى، لو ألقيت على خطاب العدناني ومَن حوله مِن المتطرفين «فإذا هي تلقف ما يأفكون»، فلماذا لا يحصل هذا؟ كم مرة وقف شيخ يرمي بهذه الحجج الدامغة على الخطاب المتطرف فلا يستجاب له؟

من الواضح أن هناك موانع تحول دون ذلك، فما هي؟ هذا موضوع يستحق البحث قبل الإعداد لمؤتمر آخر في فندق آخر وقاعة فسيحة وجمع من علماء الأمة، لتبيان خطر الفكر التكفيري.

 

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *