أ.د. محمد إبراهيم السقا

التكامل الخليجي – الآسيوي

يوما بعد يوم تتعزز التوقعات أن القوة الاقتصادية في العالم تتحرك، وإن كان ذلك ببطء في الوقت الحالي، نحو الشرق حيث يعيش الجانب الأكبر من سكان العالم بقوتهم البشرية الضاربة، وحيث يتوقع أن توجد أكبر الأسواق الاستهلاكية في العالم وأكثرها اتساعا، مع تزايد متوسط نصيب الفرد من الدخول في المنطقة.

إن المتعمق في التطورات التي تشهدها آسيا منذ فترة يصل إلى قناعة أن آسيا هي العمق الاقتصادي الكامن والحقيقي لدول مجلس التعاون، وإن تكامل دول المجلس مع العالم ينبغي أن يتركز أساسا في آسيا أكثر من أي منطقة أخرى. النمو السريع في آسيا وارتفاع مستويات الدخول وتحول استراتيجيات النمو في الصين سترفع الطلب الآسيوي على الطاقة بصفة خاصة النفط والغاز. إذ تشير التقديرات إلى أن آسيا ربما تستورد نحو 90 في المائة من إجمالي استهلاكها من النفط، ما يجعل السوق الآسيوية الأكثر استهلاكا للنفط الخليجي، في الوقت الذي تتراجع فيه الأهمية النسبية لمصادر استهلاك الطاقة الرئيسة في العالم في أوروبا والولايات المتحدة التي تمكنت من رفع مستوى اكتفائها الذاتي بفعل ثورة النفط الصخري.

يميل بعض المراقبين إلى الاعتقاد أن الثقل الاقتصادي الذي كانت تتمتع به الصين والهند قديما قبل صعود النفوذ الغربي، سيعود مرة أخرى، ومن المتوقع أن تصبح هاتان القوتان أهم مراكز القوة الاقتصادية عالميا، حيث سيتركز نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي في آسيا.

على الجانب الآخر فإنه على الرغم من أن دول المجلس هي أكبر منتجي ومصدري النفط في العالم، فإن هذه الدول تواجه عديدا من القيود على الرغم من ارتفاع قدراتها المالية، نظرا لتركز النشاط الاقتصادي فيها حول النفط، واعتماد الطلب المحلي بشكل أساس على الإنفاق الحكومي، الأمر الذي يجعل النمو في هذه الدول معتمدا بشكل أساس على أداء الأسواق العالمية للنفط الخام، وهي تسعى جميعا في الوقت الحالي لتنويع مصادر دخولها وتخفيف اعتمادها الاقتصادي على النفط، ولكن في المقابل فإن دول مجلس التعاون تمتلك قوة مالية هائلة تتمثل في حجم الأصول التي تستثمرها صناديقها السيادية في العالم.

التكامل”الخلي/ آسيوي” يمثل فرصة استثنائية في الوقت الحالي للمنطقة. فنفط الخليج وغازه وصناعاته البتروكيماوية وغيرها من الصناعات غير النفطية وكذلك الاستثمارات الخليجية يمكن أن تساعد على توثيق التعاون على أساس تبادل المصالح بين المنطقتين، وفك بعض القيود أمام انطلاق نمو الخليج. حيث ينظر إلى ضيق أسواق دول المجلس على أنها أحد القيود الحالية التي ربما تحد من نمو بعض القطاعات في المنطقة كالقطاع الصناعي، نظرا لضعف أعداد المستهلكين في المنطقة، غير أن اتفاقيات التجارة التفضيلية مع الكتلة الآسيوية يمكن أن تفتح أسواق هذه الدول للمنتج الخليجي على النحو الذي يساعد على فك هذا القيد بل مساعدة دول المجلس على تطوير قطاعات إنتاجية رديفة لقطاع النفط تعزز من الرؤى الحالية لتنويع مصادر الدخل وتضمن استقرارا أفضل للنشاط الاقتصادي في المنطقة.

إن تبادل المنافع لا يقتصر فقط على مجالات الإنتاج والتجارة، وإنما يمتد أيضا لمجالات الاستثمار على نطاق واسع. فقد اعتادت أوروبا والولايات المتحدة أن تكونا الوجهة الأساسية لاستثمارات دول المجلس، غير أن التجربة الماضية، وخصوصا بعد الأزمة المالية العالمية أثبتت أن هذه الدول ليست دائما هي الوجهات المثالية للاستثمارات المالية لدول المجلس. أكثر من ذلك فإن هناك اعتمادا شبه مفرط للدول الخليجية على الدولار الأمريكي باعتباره عملة التصدير وعملة الربط وعملة الاحتياط الأساسية وأهم وسائلها الاستثمارية، غير أن هذه الدول في حاجة إلى تخفيف اعتمادها على الدولار بالبحث عن عملات أخرى تنوع من سلة نقدها الأجنبي وتوفر فرصا أكثر تنوعا لتمويل تجارتها واستثماراتها، على سبيل المثال من خلال الاتفاقيات الثنائية لاستخدام الرينمنبي الصيني الذي تتزايد أهميته وحيويته عالميا بمرور الوقت.

على الرغم من أن اتجاهات التجارة بين المنطقتين تنمو بمعدلات كبيرة، على سبيل المثال تزايدت التجارة منذ عام 2000 مع الشرق، بصفة خاصة الصين والهند بأكثر من 30 ضعفا، مما يعكس النمو الواسع في النشاط التجاري بين المنطقتين، فإن مؤشرات التجارة الحالية بين دول المجلس وآسيا، لا تعكس القدرات التجارية الكامنة بين المنطقتين. ذلك أن الآفاق المستقبلية لهذا النمو تبدو أوسع وأرحب مع المزيد من الانفتاح الذي تشهده هذه الدول.

كذلك فإن الفوائض المالية للمنطقة يمكن إعادة تدويرها في آسيا، بصفة خاصة في تمويل المشاريع الإنتاجية المشتركة التي يمكن أن تساعد على عمليات التنويع الاقتصادي وتعزيز الشراكة الاقتصادية مع آسيا، على سبيل المثال في الصناعات كثيفة الاستخدام للطاقة مثل المشتقات النفطية والبتروكيماويات والمعادن، حيث يرتفع الطلب بشكل متزايد عليها في آسيا، والصناعات الاستهلاكية في آسيا حيث يرتفع الطلب عليها في الخليج، الأمر الذي يمكن أن يسهم في تعميق التنوع الإنتاجي في دول المجلس ويقلل من تركز النشاط الاقتصادي حول النفط.

أعتقد أيضا أن “الرؤية السعودية 2030” يمكن أن تستفيد من هذا التعاون بشكل فعال لتحقيق المستهدفات الرئيسة لـ الرؤية في تنويع مصادر الدخل وتعزيز الاعتماد على الاستثمارات الخارجية التي يخطط لها بأن توفر مصادر دخل أكثر تنوعا واستقرارا من النفط. فصندوق الاستثمارات العامة المقدر له، وفقا لـ الرؤية، بأن تكون أصوله نحو تريليون دولار، ينبغي أن يركز استثماراته في الشرق. كما أن “رؤية 2030” يمكن أن تعظم استفادتها أيضا من التعاون السعودي الآسيوي في مشاريع البنى التحتية والمشاريع الإنتاجية والتسهيلات الخدمية الأخرى في السعودية.

قد ينظر إلى اختلاف اللغات والثقافات والأيديولوجيات على أنها عناصر مقيدة للتعاون بين المنطقتين، لكن من المعلوم أن كل القيود تذوب عندما تكون هناك رغبة في تعميق العوائد من مجالات الأعمال المشتركة وتعزيز التعاون الاقتصادي، فالمصلحة الاقتصادية دائما ما تعلو فوق أية قيود.

باختصار فإن تكامل رؤوس الأموال الخليجية، ومواردها الطبيعية من الطاقة والغاز مع قوة العمل الآسيوية وأسواقها الاستهلاكية الواسعة يمكن أن يفتح آفاقا لا حدود لها للتعاون الاقتصادي بين المنطقتين، وأن العمق الاقتصادي المستقبلي لدول المجلس هو في آسيا، أكثر من أي منطقة أخرى في العالم.

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

أ.د. محمد إبراهيم السقا

أستاذ الاقتصاد – جامعة الكويت
[email protected]
@elsakka

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *