عبدالله النيباري

منع الاختلاط والحول الفكري

العنوان أو نصفه مقتبس من مقالة للكاتب محمد صالح السبتي عنوانها “الحول الفكري” (الجريدة 7/ 5/ 2016)، والمقصود أن الفكر لدى البعض، كما العين، قد يصيبه الخلل، ويتبدى ذلك في فكر صاحب التطرف والتزمت، الذي يرى أن فكره حق مطلق، ورأي من يخالفه باطل أو شر مطلق.
ويبدو، والله أعلم، أن هذا التشخيص ينطبق على مقترح منع الاختلاط بين الطلاب والطالبات في الجامعة وهيئة التعليم التطبيقي، بإنشاء مبانٍ منفصلة، وربما متباعدة للجامعة أو الجامعات في المستقبل، لمنع الاختلاط بينهما، تشددا في الحرص على العفة وصيانتها من أي انحراف أو دنس، لا قدَّر الله. وهو اقتراح يجافي العقل والمنطق، ويصادم الواقع ونمط الطابع العام للحياة الاجتماعية، وما نالها من تطور، كما أنه تشكيك مسبق في سلوكيات أبنائنا وبناتنا في مراحل التعليم العالي، ونحن لم نسمع طوال نصف قرن مضى، منذ نشأة الجامعة والهيئة، عن سلوكيات منحرفة أو فضائح أخلاقية، وإن حدث شيء من ذلك، كحوادث فردية، فلها وسائل علاج رادعة كثيرة، كبقية فئات المجتمع.
إن السور الواقي لحماية الشباب في المؤسسات من الانحراف داخل أسوار هيئات التعليم أو خارجها، يكمن في التربية وغرس الأخلاق والقيم الحميدة، وبناء سور واقٍ داخل شخصية الإنسان يحفظه من الزلل والانحراف عن الطريق المستقيم.
غاب عن أصحاب الفكر الأحول، أن ظروف الحياة التي نعيشها تتوافر فيها وسائل الاتصال، التي تتجاوز الأسوار، فالشباب، ذكورا وإناثا، لديهم التلفونات الجوالة والإنترنت، ويخرجون بسياراتهم الخاصة، والحياة الاجتماعية طالتها تطورات هائلة في الستين سنة الماضية، وتغيرت أنماطها، نتيجة التطور الاقتصادي، وانتشار التعليم، بكل مراحله، وخاصة بين النساء، ومؤشر ذلك، ارتفاع نسبة الطالبات في الجامعة وهيئة التعليم التطبيقي، حيث بلغ عددهن 50 ألف طالبة، مقابل 25 ألف طالب، بنسبة 67 في المئة للطالبات، و33 في المئة للطلاب.
والاقتراح يقتصر على فصل الذكور عن الإناث في مؤسسات التعليم العالي فقط، فماذا عن بقية شرائح المجتمع؟
عدد النساء في سن العمل فوق 15 سنة يقدَّر بنحو 280 ألفا (المجموعة الإحصائية 2014)، أي ان مقترح منع الاختلاط ينطبق فقط، فيما لو أقر لا سمح الله، على 15 في المئة من النساء فوق 15 سنة.
وغاب عن أصحاب الحول الفكري، أن من بين 260 ألف موظف في الوزارات والقطاع العام، هناك 143 ألف امرأة، أي نحو ثلاثة أضعاف عدد الطالبات.
والنساء العاملات في القطاع العام يستقبلن في مكاتبهن المواطنين، لإتمام معاملاتهم، مثل الطبيبات والمهن الطبية الفنية، ويدخل عليهن الرجال في غرفهن ومكاتبهن.
فهل سيقترح أصحاب الفكر الأحول الفصل بين الجنسين، بمبانٍ منفصلة في المستشفيات والمستوصفات ووحدات الفحوص، كالطب الكيماوي، وهذه الشريحة الأخيرة معظم شاغليها من النساء، وفق تجربتي الشخصية، وأيضا وزارات وهيئات ومؤسسات؟ وهل يقترحون أن يكون لدينا بنك مركزي للنساء، وآخر للرجال، وكذلك بنك الادخار والائتمان… وهلم جرا؟
نمط حياة المجتمع الكويتي تغيَّر عما كان عليه قبل 60 سنة، فحتى أوائل عقد الخمسينيات لم تكن المرأة تخرج من بيتها إلا بصحبة رجل، وكما قال لي أحد الأصدقاء، إن جدته لم تكن لديها عباءة، وإذا حدث وخرجت مرة في السنة، مثلا، تُستعار لها عباءة.
اليوم المرأة، وحتى في بداية دخولها الجامعة، أو قبل ذلك، لديها سيارتها وتلفونها، وتخرج لدراستها أو عملها أو فسحتها غير مصحوبة، ومن يذهب إلى مراكز التسوق الحديثة يرى أعدادا كبيرة من النساء، بما فيها من الأسر المحافظة، محجبات ومبرقعات، بملابسهن الطويلة، يرتدن هذه المحال، للتبضع والجلوس في المطاعم والمقاهي، وأصبحت ظاهرة وجود نساء في مطعم أو مقهى أمرا عاديا ولا يثير الانتباه.
كذلك، فإن الكويتيين أكثر الناس أسفارا، وأصبح أمرا عاديا أن ترى نساء في مختلف الأعمار يسافرن لوحدهن غير مصحوبات برجال من الأقارب.
والغريب أن أصحاب الاقتراح لم يحتجوا على الاختلاط في مجلس الأمة، بعد أن أصبح لدينا برلمانيات ووزيرات، وأيضا موظفات في كادر المجلس.
فهل سيقترح أصحاب الفكر الأحول مجلس أمة للنساء، وآخر للرجال، وكذلك مجلس وزراء؟
التغيرات الاجتماعية ليست مقتصرة على الكويت، فهي مثل دول الخليج، وعلى الأخص المملكة العربية السعودية، الأكثر محافظة، فهناك عضوات في مجلس الشورى والمجالس البلدية، وقضية السماح للمرأة بقيادة السيارة مسألة اجتماعية يقررها المجتمع، وليست مسألة دينية أو شرعية.
الحياة الاجتماعية تغيَّرت في الكويت، لمزيد من الانفتاح، ومعظم التغيرات حدثت في العقود الثلاثة الماضية، رغم انتشار الصحوة الإسلامية.
وهذه التغيرات عميقة، وطالت كل مناحي الحياة، وسلوك الناس والحماية من الانحراف وصيانة العفة تكون بالتربية وغرس القيم الأخلاقية في نفوس الأجيال، وأهمها التفكير السديد، وتحصينهم من الكذب والدجل والتزمت المقيت والنفاق، وتزويدهم بالفكر الرشيد والاستنارة.
ولكن بالتأكيد، إن حياة المجتمع لن تعود إلى الوراء.

آخر مقالات الكاتب:

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *