أ.د. محمد إبراهيم السقا

ما الذي يحدث للعملة الفنزويلية؟

الاقتصاد الفنزويلي يعاني الخصائص التقليدية للاقتصاد المرتفع التضخم الذي يسير على أعتاب التضخم الجامح. فمن بين دول “أوبك”، كانت فنزويلا أكثر الاقتصادات تأثرا بتراجع أسعار النفط. في عام 2011 بلغ معدل التضخم في فنزويلا نحو 21 في المائة، وهو بالتأكيد معدل مرتفع، لكن تطورات معدل التضخم فيما بعد تجاوزت الحدود المعقولة كافة. ففي عام 2015 قدر صندوق النقد الدولي معدل التضخم بنحو 275 في المائة، في الوقت الذي يتوقع الصندوق أن يرتفع معدل التضخم في 2016 إلى نحو 720 في المائة، وهو ما ينذر بحدوث تضخم جامح في حال استمرار الأوضاع على ما هي عليه.

أهم العوامل التي تقف وراء هذا التطور هو السياسات الاقتصادية غير الرشيدة التي ترتب عليها تدهور قيمة العملة الفنزويلية البوليفار. ففي عام 2003 حينما كان معدل الصرف 1.6 بوليفار لكل دولار تم تبني نظام معدل ثنائي للصرف يفرض معدل صرف منخفض للواردات الأساسية، ومعدل صرف أعلى نسبيا للواردات الأخرى.

في عام 2012 تم توسع نطاق النظام بإدخال معدل الصرف الثلاثي، حيث يوجد معدلا صرف منخفضان للدولار بموجبهما يتم تمويل الواردات الأساسية للدولة مثل الطعام والدواء وقطع غيار السيارات، في المقابل تم إدخال معدل صرف ثالث مرتفع للدولار، حيث يتم بيع الدولار لمن يطلبونه خارج نطاق هذه المجموعات السلعية بهذا المعدل المرتفع، بجانب هذه الأسعار الثلاثة يوجد بالطبع معدل الصرف الحر أو معدل السوق السوداء.

في 2015 كانت معدلات الصرف الثلاثية هي 6.3 و12 بوليفار لكل دولار للواردات الأساسية، و172 بوليفار لكل دولار للواردات الأخرى. مثل هذا النظام المتعدد لمعدل الصرف فشل في جميع الأنظمة التي حاولت تطبيقه، وأدى إلى إيجاد تشوهات في سوق الصرف الأجنبي ومن ثم زيادة الضغوط على العملة المحلية في السوق السوداء. فالمعدلات المنخفضة للدولار تزيد من الطلب على الدولار على نحو مبالغ فيه. حيث يؤدي معدل الصرف المتعدد إلى تزايد الطلب على الدولار وبمقتضاه يتحول جانب من الطلب على العملة في السوق الرسمي إلى عرض للعملة في السوق السوداء على النحو الذي يؤدي إلى سوء توزيع الرصيد المتوافر من العملة الأجنبية، وفي حالة فنزويلا هناك دلائل على أن جانبا من عمليات التحويل التي تتم بالسعر الرسمي يتم إعادة ضخها في السوق السوداء بالأسعار الحرة، ليستفيد المحكمون بالفرق الهائل بين السعرين.

من جانب آخر فإن بعض المستوردين للسلع التي يتم تمويلها بالسعر الرسمي للدولار يقومون بتسعيرها على أساس سعر الدولار في السوق السوداء، ما يضخم من أرباح المستوردين على حساب المستهلك.

الدافع الأساس لتبني نظم أسعار الصرف المتعددة هو السيطرة على أسعار الواردات بالنسبة للمستهلك النهائي، فغالبا ما تتدخل الدولة للتحكم في أسعار السلع المستوردة من خلال فرض معدلات صرف منخفضة لضمان وصول الواردات للمستهلك النهائي بأسعار منخفضة، وهو هدف نبيل من الناحية الاجتماعية، لكنه مدمر اقتصاديا، إذ يتزايد الطلب على الدولار بالأسعار الرسمية، لذلك تتراجع العملة الفنزويلية بشكل واضح، وحاليا تجاوز معدل الصرف في السوق السوداء ألف بوليفار للدولار الواحد، وهو ما يعكس طبيعة الضغوط التي تواجهها العملة، والتي تعد أسوأ العملات أداء لهذا العام.

عندما يتراجع معدل الصرف على هذا النحو تأخذ الضغوط التضخمية في التراكم على النحو الذي يهدد بنشوء تضخم جامح، وما زاد الطين بلة، حالة الجفاف التي تعانيها فنزويلا في الوقت الحالي وبالتالي نقص الإنتاج المحلي من الغذاء. في ظل هذه الظروف ترتفع تكلفة المعيشة، في الوقت الذي تظل فيه الدخول ثابتة نسبيا، ما يؤدي إلى تدهور ظروف المعيشة للناس بشكل واضح. ومن الطبيعي في ظل هذه الأوضاع أن تتصاعد معدلات الجريمة بصورة غير مسبوقة، كما ارتفعت معدلات الانتحار حتى سجلت فنزويلا ثاني أعلى معدلات للانتحار عالميا.

نشأ تهاوي قيمة العملة الفنزويلية أمام الدولار أساسا مع اتجاه الحكومة في الوقت الحالي لملء الفجوة بين إيراداتها العامة من النفط ونفقاتها من خلال طبع البوليفار، وهي أولى خطوات المسار نحو التضخم الجامح. حيث ينشأ التضخم في هذه الحالة من تزايد كمية النقود مع تراجع العرض من السلع والخدمات، بسبب قصور جهاز الإنتاج المحلي أو بسبب عدم القدرة على سد فجوة العرض من خلال الاستيراد نتيجة نقص العملة الأجنبية مع تراجع إيرادات الدولة من النقد الأجنبي. ووفقا لبيانات البنك المركزي فإن المودعات في المصارف من العملة المحلية قد تضاعفت في العام الماضي، وهو الأمر الذي لا يعكس تصاعد المدخرات، فالدخل يتراجع مع تراجع الناتج، وإنما يعكس أساسا نمو العرض من النقود.

من جانب آخر يؤدي تراجع أسعار النفط إلى أثرين في غاية الخطورة في الاقتصاد الفنزويلي، الأول هو تراجع القدرة على الاستيراد من الخارج، حيث أصبحت المحال الخالية من البضائع إحدى السمات الأساسية اليوم في فنزويلا، والثاني وهو تراجع قدرة الحكومة على خدمة دينها الخارجي، وتصاعد احتمالات توقف الدولة عن خدمة هذه الديون وهو الأمر الذي يتوقعه المراقبون هذا العام في ضوء الاتجاهات الحالية لأسعار النفط.

أكثر من ذلك عندما تتراجع العملة بشكل مستمر فإن الاستثمارات الأجنبية تأخذ في الانخفاض بسبب ارتفاع مخاطر النقد الأجنبي، ففي ظل الضغوط على العرض المتاح من النقد الأجنبي تجد الشركات الأجنبية مشكلة في كيفية تحويل أرباحها إلى الخارج، وقد يأخذ بعضها في الخروج من الدولة مخافة تدهور القيمة الحقيقية لاستثماراتها.

للخروج من هذا المأزق تحتاج فنزويلا إلى برنامج إصلاح اقتصادي يرفع من كفاءة الاقتصاد بعملية جراحية ستكون مكلفة جدا للناس، التي من المتوقع أن تصاحبها موجة غضب شعبي عارمة، وهو رد فعل طبيعي لأناس عاشوا لفترات طويلة في ظل الحماية الاقتصادية غير الرشيدة للدولة، فضلا عن ضرورة إصلاح النظام السياسي الحالي، ولكن على ما يبدو ألا أحد مستعد لإجراء هذه الإصلاحات، التي إلى أن تتم سيستمر الوضع الاقتصادي في فنزويلا مرشحا للتراجع، ومعه تزداد الاختلالات الاقتصادية تعمقا.

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

أ.د. محمد إبراهيم السقا

أستاذ الاقتصاد – جامعة الكويت
[email protected]
@elsakka

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *