أ.د. محمد إبراهيم السقا

الاقتصاد الياباني يعاود الانحسار

منذ أن تسلّم زمام القيادة في البلاد أخذ رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي منحى مختلفا عمن سبقه لانتشال اليابان من مصيدة الانكماش التي تعيش فيها منذ فترة طويلة، محاولا وضع الاقتصاد الياباني على مسار النمو المستدام وذلك باستخدام مزيج من سياسات التحفيز المالي والنقدي، خصوصا برنامج التيسير الكمي الضخم الذي بمقتضاه يشتري البنك المركزي الياباني نحو ثمانية تريليونات ين (64.5 مليار دولار) من السندات شهريا منذ أكثر من سنتين، بهدف رفع معدلات التضخم لتحفيز قطاع الأعمال على الاستثمار، وبالفعل استجاب النمو في اليابان للتحفيز، واستطاع آبي تحقيق نجاحات جوهرية، حيث ارتفع الأداء الاقتصادي على نحو لم تشهده اليابان منذ الأزمة الآسيوية، وهو ما عرف لاحقا باقتصاديات آبي Abenomics. غير أن عزم النمو أغرى آبي بالتسريع بإدخال ضريبة المبيعات، التي كانت، فيما يبدو حتى الآن، أحد الأخطاء المرحلية التي دفعت النمو الياباني نحو التراجع، الأمر الذي تسبب في رابع كساد تمر به اليابان خلال عقد من الزمان، وبشكل عام على الرغم من التحول الواضح في السياسة الاقتصادية اليابانية إلا أن النمو الاقتصادي اتسم بالتقلب على المدى القصير بين نمو وانحسار من وقت إلى آخر.

كان رفع ضريبة المبيعات من 5 إلى 8 في المائة في نيسان (أبريل) 2014 بمثابة ضربة قاصمة للإنفاق الاستهلاكي في اليابان، حيث تبعها تراجع كبير في النمو بلغ 7.7 في المائة، أدخل الاقتصاد الياباني في حالة كساد، حتى الربع الثاني من 2014، ثم عاود الاقتصاد النمو، خصوصا في الربع الأول من هذا العام، حيث بلغ معدل النمو 4.5 في المائة على أساس سنوي وذلك بعد نمو لا يتجاوز 1.4 في المائة في الربع الرابع، وقد ساعد تراجع الين في الربع الأول على تشجيع الصادرات، ومن جانب آخر أدت أرباح الشركات إلى زيادة الإنفاق الرأسمالي وكذلك إلى قيام الشركات برفع الأجور الاسمية، وهو ما أدى إلى دفع النمو في الربع الأول، وقد نظر إلى هذا النمو على أنه يمثل عودة لعزم النمو وتعافي الاقتصاد الياباني من آثار ضريبة المبيعات.

غير أن النمو المحقق في الربع الأول لم يكن مبهرا، بالعكس فلقد كانت هناك بعض الإشارات على أن هذا النمو يحجب نقاطا عديدة للضعف الاقتصادي في اليابان، بصفة خاصة فقد أشارت بيانات الربع الأول إلى تزايد تراكم مخزون في قطاع الأعمال على نحو أكبر من المتوقع، ويعكس هذا المخزون حجم الناتج الذي لم يبع، وعندما يتراكم المخزون لدى قطاع الأعمال فإن ذلك يعطي إشارة إلى أن النمو في الإنفاق الاستهلاكي لا يتماشى مع النمو في الناتج، ولقد جاءت بيانات النمو في الربع الثاني من هذا العام بمثابة لطمة لاقتصاديات آبي، حيث أشارت التقارير إلى تراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1.6 في المائة.

المشكلة الأساسية هي أن جانبا كبيرا من هذا التراجع في النمو يعود أساسا إلى ظروف خارجة عن اليابان، بصفة خاصة تراجع النمو في أوروبا وتعقد مشكلات اقتصادات الأسواق الناشئة في العالم، فضلا عن تقلب معدلات النمو في الولايات المتحدة. بمعنى آخر، فإن الظروف الاقتصادية الخارجية اللازمة لدعم النمو الياباني غير متوافرة في الوقت الحالي، وهو ما يعني فقدان الاقتصاد أحد أهم المصادر الأساسية للنمو خارجيا.

لقد كان تراجع الصادرات أكبر العوامل التي أدت بالاقتصاد الياباني نحو التراجع، حيث انخفضت الصادرات بنسبة 16.5 في المائة في الربع الثاني، وقد أسهم تراجع الاقتصاد الصيني في هذا التراجع، حيث انخفضت الصادرات إلى الصين بنسبة 11 في المائة، في النصف الأول من 2015، بصفة خاص فقد انخفض الطلب الصيني على السيارات اليابانية بنسبة 30 في المائة، كما تراجع الطلب على قطع غيار السيارات بنسبة 20 في المائة. والحقيقة أن المتتبع لمسار النمو في العالم يجد أن التأثير نفسه يواجهه شركاء الصين في التجارة مثل روسيا وغيرها من الاقتصادات الناشئة، ومن الواضح أن الأوضاع الاقتصادية السيئة في الصين تلقي بظلالها السلبية على النمو الاقتصادي في العالم، حيث أصبح الاقتصاد الصيني كما يبدو أحد مفاتيح النشاط الاقتصادي فيه.

لم تنخفض الصادرات اليابانية إلى الصين فقط، وإنما انخفضت أيضا إلى الدول الآسيوية الأخرى وكذلك إلى أسواق أوروبا والولايات المتحدة، ومما يعقد التوقعات المستقبلية لليابان قيام الصين بخفض قيمة عملتها، الأمر الذي يضع ضغوطا على الين مع تراجع القدرات التنافسية النسبية في مقابل الصين. أكثر من ذلك فإن استمرار تراجع أسعار النفط يضغط على معدلات التضخم في اليابان نحو التراجع، وهو ما يتناقض مع الأهداف الحالية لبنك اليابان المركزي برفع معدلات التضخم إلى مستواها المستهدف الذي يساوي 2 في المائة.

داخليا كان انخفاض الإنفاق الاستهلاكي الخاص أهم العوامل في ضعف النمو. فقد تراجع الاستهلاك الخاص بنسبة 3 في المائة على أساس سنوي في الربع الثاني، ويمثل الإنفاق الاستهلاكي أكبر مكونات الإنفاق على المستوى الكلي في اليابان “نحو 60 في المائة من الإنفاق على الناتج المحلي الإجمالي”، ويرجع هذا التراجع في الاستهلاك إلى عوامل عدة أهمها ارتفاع الأسعار مع ضعف الين وبطء نمو الدخول مقارنة بالنمو في الأسعار، فالأجور تتراجع من الناحية الحقيقية منذ نحو سنتين تقريبا، بسبب الفجوة بين نمو الأجور وارتفاع الأسعار، بل إن بعض المصادر تشير إلى أنه خلال العام الماضي تراجعت الأجور من الناحية الحقيقية بنسبة 2.9 في المائة، وهو ما جعل القوة الشرائية للمستهلكين تتراجع، وبالتالي خطط الإنفاق الاستهلاكي الخاص.

حاليا هناك توقعات باستعادة النمو عزمه في اليابان في النصف الثاني من هذا العام وهو ما دعا البعض إلى المناداة بضرورة أن تقدم الحكومة المزيد من جرعات التحفيز لمساعدة الاقتصاد على الحفاظ على استدامة عزم النمو. حيث يقترح بعض مستشاري آبي حزمة تحفيز استنادا إلى ارتفاع الإيرادات الحكومية الناتج عن زيادة الإيرادات الضريبية بسبب تزايد أرباح الشركات في الفترة الأخيرة. غير أن هناك مشكلة خطيرة في التحفيز المالي، وهي أنه سيؤدي إلى تزايد العجز المالي وبالتالي رفع مستوى الدين إلى الناتج، وهو المؤشر الذي تحتل اليابان فيه المركز الأول بين دول العالم الصناعي في ثقل حجم الدين بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي، كما أنه يمثل أحد أكبر مصادر القلق في الوقت الحالي حول الاقتصاد الياباني، وبالتالي فليس أمام اليابان سوى زيادة جرعة التيسير الكمي التي يقوم بها البنك المركزي الياباني حاليا.

الحقيقة أن انحسار النمو في اليابان يعكس طبيعة المخاطر التي يواجهها الاقتصاد العالمي في الوقت الحالي، فتراجع النمو لا يقتصر فقط على اليابان، حيث أظهرت أحدث تقارير اليوروستات ضعف معدلات النمو الاقتصادي في أوروبا في الربع الثاني من 2015، على الرغم من خطط التيسير الكمي الضخمة التي يمارسها البنك المركزي الأوروبي وانخفاض أسعار الطاقة مع استمرار تراجع أسعار النفط، فقد اقتصر النمو في منطقة اليورو (19 دولة) على 0.3 في المائة، وهو نمو أقل من المعدل المتوقع، حيث اقتصر النمو في ألمانيا على 0.4 في المائة، بينما لم تحقق فرنسا أي نمو، وكذلك هولندا والنمسا، بينما انخفض النمو في فنلندا. أما في دول الاتحاد الأوروبي (28 دولة) فقد اقتصر النمو على 0.4 في المائة، ولا شك أن ضعف تطورات النمو في العالم يحمل العديد من المخاطر التي تهدد التعافي الاقتصادي للعالم من الركود الذي يعانيه حاليا.

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

أ.د. محمد إبراهيم السقا

أستاذ الاقتصاد – جامعة الكويت
[email protected]
@elsakka

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *