المفهوم الإنساني العاقل هو أن يفنى فرد لأجل أن تحيا وتبقى أمة من البشر، وقد شهدت الإنسانية بالمقابل في القرن الماضي مفاهيم متوحشة معاكسة فحواها هي أحقية أن تفنى أمة ويموت الملايين من أجل أن يبقى فرد واحد في موقعه حتى لو أثبتت الأحداث والأفعال تباعا عدم أهليته لذلك الموقع.
خسر الألمان خلال السنوات الخمس الأولى من الحرب الكونية الثانية 3 ملايين قتيل ولم تدمر ألمانيا خلالها لكون الحرب كانت قائمة خارج حدودها ولامتلاكها آلاف المدافع والطائرات للدفاع عن أجوائها، وبعد تلك السنوات الخمس انهزمت الجيوش الألمانية على كل الجبهات وتوقفت المصانع وبانت الهزيمة واضحة جلية وكان المنطق يستدعي أن يضحي هتلر بكرسيه ويقبل الاستسلام أو الانتحار لإنقاذ ألمانيا من الدمار المحقق.
رغم معرفة الطاغية هتلر بتلك الحقيقة إلا أنه أصر على القتال مستخدما الأطفال من مخبئه المحمي تحت الأرض مما تسبب في الدمار الشامل لألمانيا وقتل خلال الأشهر التسعة الاخيرة من الحرب 5 ملايين الماني، وكان العسكر اليابانيون على الجبهة الأخرى يعتزمون القيام بالأمر ذاته أي إفناء الأمة اليابانية لأجل عيشهم وبقاء الإمبراطور هيروهيتو في سدة الحكم ولولا القنبلة النووية التي قتلت الآلاف لفني الملايين، وقد ساعد على إنهاء الحرب تعقل الإمبراطور الياباني وتوقيعه على وثيقة الاستسلام.
هذه المعادلة المجنونة تكررت مرارا وتكرارا في تاريخنا العربي الحديث، ويحسب للرئيس عبدالناصر تقديمه لاستقالته عام 1967 اعترافا بالخطأ ولإنقاذ الأمة، كما أتى في خطاب التنحي، إلا أن ذلك المفهوم لم يتكرر بعدها في محيطنا العربي فبقي عرفات رغم حرق عمان، ومثله شمعون وفرنجية ولحود رغم تدمير لبنان.
والمثال الصارخ الآخر هو صدام حسين الذي كان يعلم علم اليقين أن تركه للحكم سيرفع الحصار عن العراق ويوقف موت الأطفال، حيث كانت وسائل الإعلام وأبواقه المأجورة تفخر بموت 1.5 مليون منهم لأجل بقاء الطاغية على كرسيه رافعين شعار «تموت أمة ليبقى فرد».
والنظرية نفسها والمبدأ نفسه، أي التضحية بالشعوب لأجل الأفراد، قامت بهما ليبيا إبان حصارها الطويل، كما ان ذلك مشابه لما يجري في السودان هذه الأيام والذي سيتسبب تصادمه مع المجتمع الدولي في انشطاره لست دول، وقد سبق لقيادات ثورية في المنطقة أن أعلنت مفتخرة بحروبها أنها لا تهتم بعدد الضحايا من اتباعها بينما يتأثر عدوها عند جرح فرد واحد من أبنائه، وهي وصفة انتصار أفضل منها الهزيمة.
ولا يكتفي بعض ساسة ومفكري التثوير العربي بإفناء الأمة لأجل الفرد، بل يطالبون بإفناء أجيال الأمة المستقبلية لأجل ذلك الفرد أو امتداده بأبنائه القابعين على الكراسي عبر ترديد المقولة المدمرة بأن صدامنا مع الآخرين هو صراع أجيال فإذا لم ننتصر هذه المرة فعلينا أن نرحل تلك الحروب لأجيالنا المقبلة، بينما الآخرون يرحلون مشاريع الإعمار والبناء والتنمية لأبنائهم، وقيادات الضرورة لدينا يتوعدون أجيال الأمة بترحيل الخراب والدمار لهم، بئس المقولة!