حسن العيسى

الزهايمر

في إحدى مقالاته الأخيرة بالشرق الأوسط، شكا مصطفى أمين حالته الصحية، كان يتألم ككاتب من أنه أضحى ينسى كثيراً، مما زاد من صعوبة حياته بالكتابة، لم يمض وقت طويل ورحل أمين عن الدنيا، ليحل مكانه في الزاوية صديقنا د. أحمد الربعي، وبدوره غادر أحمد مطار النهاية عبر بوابة المرض الخبيث، مات بعد سنوات قليلة أو طويلة (ليس الزمن مهما بوادي الأموات) من مرضه، لم يكن أحمد مسناً، كان في أوائل خمسينياته، أذكره يكرر دائماً بعد أن علم بالسرطان المستوطن برأسه عبارة: “الحمد لله عشت خمسين سنة جميلة بكل لحظاتها السريعة”… شجاعة نادرة وإيمان مطلق بالقدر.
لم يشتك أحمد من النسيان مثل أمين، بكلام آخر لم يعان الخرف، ومن الزهايمر أو الدمينشا، ذكره الموت قبل أن يفقد الذكرى.
كاتب أميركي، دوّن حالة “الزهايمر” التي يعاني عذاباتها، في الطائرة أراد الذهاب لدورة المياه، فكاد يفتح باب الطائرة ظناً منه أنه باب دورة المياه، لولا تدخل ابنته في اللحظة المناسبة. يذكر أنه كان يضع الشامبو على الفرشاة بدلاً من معجون الأسنان في الصباح، ويستعمل مطهر الفم لغسيل الرأس… (كسافة)، نصحه الطبيب بأن يلصق عبارة شامبو، ومعجون أسنان وصابون على تلك الأدوات… فلا يضيع بزحمة الأشياء.
أتذكر أنني “سيفت” (احتفظت) بذلك المقال، للرجوع إليه في ما بعد، نسيت أين “سيفته” في تلافيف سوفت وير، وفي أي جريدة نشر، قد تكون نيويورك تايمز، أو “واشنتغتون بوست” أو ربما مجلة “سمير وتهته”، لا أتذكر، كسافة أيضاً… ليست مهمة.
صديق من جيلي أخبرني أنه نسي اسم زوجته…! قلت له حظك جميل، فكل يوم ستجد إنساناً جديداً يشترك معك بالحياة، ويجدد وجودك السئم بدنيا التكرار البرجوازية في مثلث “مو ناقصنا شي” السمج، أو قد يكون من حسن حظك نسيانك زواجك، المسائل نسبية في النهاية!
الزهايمر، مرض يصيب خلايا المخ؛ يؤدي إلى تدهور بالإدراك والوعي، وتغير بالمزاج والحالة العصبية، يسمى دمينشا، أي الخرف المصاحب لكبار السن عادة، لكن الزهايمر قد يصيب البشر وهم في منتصف أعمارهم، وهناك بشر لا يعانونه أبداً ولو قطعوا أشواطاً طويلة من مشوار العمر، فهنري كيسنجر تجاوز التسعين عاماً، ومازال يكتب ويبحث في النظام العالمي بكل تفاصيله الدقيقة، قريبي بدر خالد البدر توفي بعد أن تجاوز المئة من العمر، شاهدت له شريطاً مسجلاً قبل وفاته بأسابيع يتحدث بأدق التفاصيل التاريخية، ودونها قبل ذلك بأعوام في كتاب “رحلتي مع قافلة الحياة”، لعلة يذكر كيف قاد الطائرة من البصرة إلى بغداد قبل ثمانين عاماً، كأول طيار كويتي… الله يرحمه.
أحياناً قد يصيب الزهايمر إدارة الدولة، فتقول كلاماً يوماً، وتنساه في اليوم الآخر، تعد الناس بحلم ما، ويضحي كابوساً حين تنساه أو تتناساه، هذا “الزهايمر” سياسي متعمد وبسوء نية، يخشى أصحابه من المسؤولين مواجهة الواقع بتحدياته، فيلجأون إلى حيلة النسيان عند شعوبهم التي تغرق في رخاوة استهلاك سلع حاضرها ولا تعمل حساباً لغدها القريب والبعيد… يمكن أن نسميه الزهايمر النفطي… أو زهايمر غياب الرؤية… اختاروا… والله يشفي الجميع.

آخر مقالات الكاتب:

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *