أ.د. محمد إبراهيم السقا

الريال السعودي يرتفع والأسعار لا تنخفض .. لماذا؟

الريال السعودي مربوط بصورة جامدة بالدولار الأمريكي، بمعنى أن معدل صرف الدولار لا يتغير بالنسبة للريال، حيث يتم التدخل المستمر في سوق الصرف الأجنبي للدفاع عن هذا الربط، من خلال سحب أو ضخ الدولار بما يساعد على ثبات معدل صرف الدولار بالنسبة للريال عند 3.750 ريال لكل دولار.

بغض النظر عن مدى ملاءمة هذه السياسة من عدمها، فإن معدل صرف الريال السعودي بالنسبة للعملات الأخرى يعتمد على تطورات معدل صرف الدولار بالنسبة لهذه العملات. ففي الأوقات التي تميل فيها قيمة الدولار نحو التراجع، فإن قيمة الريال بالنسبة للعملات الأخرى تنخفض، ومن ثم ينتقل هذا الانخفاض إلى أسعار السلع المستوردة من الدول الأخرى، ونظرا لارتفاع واردات المملكة من الخارج، سواء من السلع النهائية أو السلع الوسيطة أو المواد الخام، فإن ذلك يؤدي إلى ارتفاع أسعار تلك السلع ومن ثم يتوقع ارتفاع معدل التضخم.

من المفترض أيضا، أنه عندما ترتفع قيمة الدولار الأمريكي بالنسبة لعملات الدول الأخرى أن يرتفع معها الريال، وبالتالي يحدث العكس، أي تنخفض أسعار السلع المستوردة، ومن ثم ينخفض معدل التضخم، وهو ما يعرف في علم الاقتصاد بأثر انتقال معدل الصرفExchange rate pass-through، وهو ما يعبر عن نسبة تغير أسعار الواردات الناتجة عن تغير معدل الصرف، الذي بدوره ينتقل إلى أسعار الجملة ومن ثم إلى أسعار التجزئة للمستهلك النهائي.

ويمكن النظر إليه من زاوية أخرى على أنه قياس لدرجة استجابة (مرونة) أسعار الواردات للتغير في قيمة العملة، فلو فرضنا مثلا أن معدل صرف الجنيه الاسترليني هو خمسة ريالات، وأن السيارة التي نستوردها من بريطانيا قيمتها 200 ألف ريال، إذا ارتفع الريال بالنسبة للجنيه الاسترليني بنسبة 15 في المائة وانخفضت قيمة السيارة إلى 190 ألف ريال (أي بنسبة 5.3 في المائة تقريبا) فإن ذلك يعني أن أثر انتقال معدل الصرف إلى أسعار الواردات هو0.35 في المائة، أي أنه في مقابل كل ارتفاع للريال بنسبة 1 في المائة، تنخفض أسعار الواردات من بريطانيا بنسبة 0.35 في المائة. فهل بالفعل يحدث ذلك؟ هذا ما أحاول أن أحلله في هذا المقال.

بالطبع لا يمكننا إثبات ذلك سوى بالرجوع إلى تطورات معدل صرف الريال بالنسبة للعملات الرئيسة وقت ارتفاع الدولار بالنسبة لهذه العملات، ومن ثم تتبع أثر ذلك على المستوى العام للأسعار من خلال تطورات معدل التضخم.

وفقا لبيانات الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، فإن الرقم القياسي للدولار بالنسبة لعملات العالم الرئيسة بلغ 77.14 في شهر يناير 2014، ومنذ ذلك الوقت وهو يرتفع بشكل عام حتى بلغ 93.74 في شهر نوفمبر 2015، أي أن الدولار ارتفع بنسبة 21.53 في المائة بالنسبة لهذه العملات. بالطبع يفترض أن الريال قد ارتفع بالنسبة لهذه العملات أيضا. من جانب آخر فإن الرقم القياسي للدولار بتعريفه الأوسع (الذي يضم قائمة أوسع لعملات العالم) بلغ 102.78 في شهر يناير 2014، ومنذ ذلك الوقت والرقم القياسي للدولار يتصاعد بشكل مستمر تقريبا، حتى بلغ 120.9 في شهر نوفمبر 2015، أي أن الدولار ارتفع تقريبا بنسبة 17.69 في المائة.

بالرجوع إلى البيانات الشهرية لتطورات معدل الصرف بين الريال السعودي وبعض العملات الرئيسة، وفقا لبيانات مؤسسة النقد العربي السعودي، فقد ارتفعت قيمة الريال خلال الفترة من يناير 2014 حتى سبتمبر 2015 بالنسبة للدولار الأسترالي بنسبة 22.29 في المائة، وللريال البرازيلي بنسبة 23.43 في المائة، وللين الياباني بنسبة 14.13 في المائة، وللروبية الهندية بنسبة 2.44 في المائة، وعلى الرغم من تقلب قيمة الريال بالنسبة للجنيه الاسترليني والوون الكوري ارتفاعا وانخفاضا، إلا أن صافي التغير كان ارتفاع الريال بالنسبة للجنيه الاسترليني بنسبة 6.76 في المائة، وبنسبة 2.12 في المائة بالنسبة للوون الكوري. أما بالنسبة لليورو فقد ارتفع الريال بنسبة 18.77 في المائة، والليرة التركية بنسبة 18.82 في المائة، وللفرنك الفرنسي بنسبة 6.93 في المائة، وأخيرا تتغير قيمة الريال بالنسبة لليوان الصيني تقريبا خلال تلك الفترة، ويرجع ذلك للثبات النسبي لليوان بالنسبة للدولار. من الواضح إذن أن قيمة الريال السعودي ترتفع بالنسبة للعملات الرئيسة في العالم في خلال العامين الماضيين، بتأثير ارتفاع الدولار بالنسبة لهذه العملات.

من جانب آخر، فإنه باستعراض درجة تركز الواردات وفقا لتوزيعها الجغرافي، وجد أن واردات المملكة تتركز بشكل عام مع هذه الدول (بالطبع إضافة إلى الولايات المتحدة). ماذا يعني ذلك؟ إن ذلك يعني أنه من المفترض أن ينعكس ارتفاع قيمة الريال على أسعار الواردات من هذه الدول التي يجب أن تنخفض معها أسعار المستهلك.

بالرجوع إلى تطورات معدل التضخم في المملكة، وجد أنه خلال عام 2014، كان معدل التضخم 2.67 في المائة، وخلال الفترة من يناير حتى سبتمبر 2015 ارتفعت الأسعار بنسبة 1.83 في المائة، ووفقا لبيانات مؤسسة النقد فإن معدل التضخم في شهر أكتوبر (على أساس سنوي) بلغ 2.4 في المائة. نحن إذن أمام حالة لا تستجيب فيها الأسعار المحلية لتطورات قيمة العملة، وأن أثر انتقال معدل الصرف إلى الأسعار المحلية لا يعمل على النحو المتوقع، فعلى الرغم من اتجاه الريال نحو الارتفاع، فإن معدل التضخم استمر في الارتفاع أيضا، ما يعني أن هناك عوامل تعطل انتقال هذا الأثر. فما هي هذه العوامل؟

يمكن أن نقدم عدة تفسيرات لتعطل انتقال أثر ارتفاع قيمة الريال إلى الأسعار، الأول هو أن إنتاجية الاقتصاد السعودي ارتفعت بصورة كبيرة في السنتين السابقتين على النحو الذي يؤدي إلى انخفاض تأثير ارتفاع قيمة الريال في الأسعار، وهذا غير صحيح، فليس هناك ما يؤيد ذلك.

الثاني هو انخفاض نسبة الواردات إلى الناتج، على النحو الذي يجعل أثر تغير أسعار الواردات على الرقم القياسي للأسعار منخفضا، ووفقا لبيانات ساما فإن نسبة الواردات إلى الناتج المحلي الإجمالي تبلغ 23.3 في المائة في عام 2014، غير أن الحساب الصحيح ينبغي أن يستند إلى نسبة الواردات إلى ناتج القطاع غير النفطي، نظرا لارتفاع نصيب قطاع النفط في الناتج المحلي الذي يوجه معظمه للتصدير، وكذلك بعد استبعاد نصيب القطاع الحكومي، ووفقا لبيانات مؤسسة النقد فإن نسبة الواردات إلى ناتج القطاع الخاص تبلغ 57.2 في المائة في عام 2014، وهي نسبة جوهرية، تنفي صحة هذا التفسير أيضا.

الثالث هو أن مؤسسة النقد تتبنى سياسة استهداف التضخم Inflation Targeting، أي أنه مع ميل معدل التضخم نحو الارتفاع تقوم بتعديل معدل الفائدة بهدف جذب معدل التضخم نحو المعدل المستهدف له، والعكس. غير أنه لا يوجد ما يوحي بأن معدلات الفائدة يتم تعديلها وفقا لتطورات معدل التضخم، فذلك يتنافى أساسا مع سياسة ربط الريال بالدولار، حيث تعتمد معدلات الفائدة في المملكة بصورة أساسية على تطورات معدل الفائدة في الولايات المتحدة، ومن ثم فإن هذا التفسير غير دقيق أيضا.

الرابع هو أن السوق المحلية في المملكة تنخفض فيها درجة المنافسة، وبالتالي ترتفع فيها درجة التركز، ومن ثم الاحتكار، الذي يمكنه بالتالي التحكم في اتجاهات الأسعار بغض النظر عن تغيرات معدل الصرف، ففي حالة انخفاض قيمة الريال واتجاه أسعار الواردات نحو الارتفاع، فإن المحتكرين يرفعون الأسعار مبررين ذلك بارتفاع أسعار الواردات نتيجة انخفاض قيمة الريال، إلا أنه عندما يرتفع الريال، وتنخفض بالتالي أسعار الواردات، فإنهم لا يخفضون أسعار بيع السلع المستوردة. أي أن الأسعار تكون مرنة عندما تصعد وجامدة عندما تهبط، وبالتالي لا تستجيب لتطورات قيمة الريال بالارتفاع، ومن ثم يضيف المحتكر فروق أسعار الواردات الناتجة عن ارتفاع قيمة الريال إلى أرباحه، ولا يستفيد منها المستهلك بشكل مباشر.

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

أ.د. محمد إبراهيم السقا

أستاذ الاقتصاد – جامعة الكويت
[email protected]
@elsakka

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *