أ.د. محمد إبراهيم السقا

عودة التوازن للسوق النفطية.. ولكن عند ماذا؟

انتشرت في العالم في الآونة الأخيرة تقارير تتحدث عن عودة التوازن إلى السوق النفطية في العالم، وذلك نتيجة لانخفاض فائض العرض في السوق، الذي تم إرجاعه إلى تصاعد الطلب على النفط، وفي الوقت ذاته تراجع العرض من بعض مصادره، خصوصا النفط الصخري.

اليوم تبدلت الصورة حول التوقعات المستقبلية للأسعار، بصفة خاصة فإن التوقعات بانخفاض الأسعار إلى 20 دولارا أو 30 دولارا أخذت في التلاشي، وفيما يبدو أننا مقدمون، وفقا للتقارير المختلفة، على أسعار تزيد على 50 دولارا للبرميل “خام برنت”. غير أن هناك اتفاقا بين جميع التقارير على أنه على الرغم من الحديث عن عودة التوازن، إلا أن تلك التقارير تخلو من احتمالات عودة الأسعار المرتفعة للنفط، التي سادت قبل أزمة السوق النفطية الحالية.

لقد بدأت الأزمة عندما رفضت “أوبك” أن تخفض مستويات إنتاجها لاستيعاب تأثيرات تراجع الطلب في مستويات الأسعار، وبدلا من ذلك أطلقت الدول المنتجة العنان لتسهيلات الإنتاج فيها لحدودها القصوى، معلنة عن الاستراتيجية الجديدة لاتحاد المنتجين المتمثلة في التنافس على المستهلكين والدفاع أساسا عن الحصص السوقية للأعضاء، لا السعر السائد للنفط في السوق، وهي استراتيجية، كما أعلنت أكثر من مرة، غريبة، وتتنافى أساسا مع الهدف الأساس لأي اتحاد للمنتجين، بل في رأيي تمهد لانهيار هذا الاتحاد، حيث كان التنافس على الحصص السبب الأساس في انهيار جميع اتحادات المنتجين التي نشأت سابقا للسلع التجارية الأخرى في العالم.

أكثر من ذلك فبسبب السياسات الجديدة لـ “أوبك” أصبحت السوق النفطية أقل حساسية للتحولات التي تحدث في العرض أو الطلب على الأسعار مقارنة بأوضاع السوق في الماضي. على سبيل المثال فإن نقص العرض الناتج عن حرائق كندا أو اضطراب العرض النيجيري أخيرا، التي كان من الممكن أن تحدث تأثيرا كبيرا في الأسعار سابقا، أصبحت استجابات سعر النفط لمثل هذه الاضطرابات في العرض محدودة اليوم، لدرجة أنه حتى مع هذه الاضطرابات لم يرتفع سعر النفط سوى بنسبة محدودة.

يشير التقرير الأخير لهيئة الطاقة الدولية إلى أن عرض النفط من جانب “أوبك” قد تزايد بنحو 330 ألف برميل يوميا في نيسان (أبريل) 2016، نتيجة زيادة الإنتاج في إيران والعراق والإمارات، ليصل إجمالي العرض من “أوبك” إلى 32.76 مليون برميل يوميا، وقد عوض هذا الارتفاع في الإنتاج تراجع العرض من الدول غير الأعضاء في “أوبك” الذي قدرته الهيئة بنحو 800 ألف برميل يوميا في 2016.

أما بالنسبة لتوازنات الطلب والعرض على المستوى العالمي، فتقدر الهيئة النمو في الطلب في 2016 بنحو 1.2 مليون برميل يوميا، الذي ترجعه لزيادة الطلب في الهند والصين وروسيا، حيث يقدر إجمالي الطلب العالمي بنحو 95.9 مليون برميل يوميا، وقد عزز هذا النمو الكبير التوقعات باستمرار تصاعد النمو في الطلب على النفط في المستقبل. من بين هذه الزيادة يتوقع أن يزيد الطلب في الهند وحدها بنحو 400 ألف برميل يوميا، أي نحو ثلث هذه الزيادة في الطلب العالمي على النفط.

أيضا من المتوقع أن يستمر إنتاج النفط غير التقليدي في التراجع، مع تزايد أعداد الشركات التي تتوقف عن الإنتاج في الولايات المتحدة ما يسهم في خفض الفائض من المعروض في السوق النفطية العالمية، إلى الحد الذي تتوقع فيه “أوبك” أن تواجه السوق النفطية عجزا في 2017. هذا بالطبع بافتراض استمرار الانتعاش الاقتصادي في مراكز الاستهلاك الرئيسة في العالم، وعدم تعرضها لأزمة نمو تنعكس سلبا على الطلب العالمي على النفط الخام.

بالطبع هذه النتيجة خلاصة تحليل استاتيكي ثابت للسوق من جانب “أوبك”، لا يأخذ في الاعتبار ديناميكية النمو في العرض من النفط غير التقليدي مع بدء الأسعار في الارتفاع. إذ تفترض الاستراتيجية الحالية لـ “أوبك” أن إغلاق تسهيلات النفط غير التقليدي مع انخفاض الأسعار سيستمر للأبد، وهو افتراض غير دقيق، فعندما يبدأ السعر في الارتفاع على الأقل نحو مستويات التعادل، من المتوقع أن تبدأ استجابة منتجي النفط غير التقليدي بزيادة الإنتاج مرة أخرى، وبالتالي تكون “أوبك” قد خسرت بسياساتها الجديدة مئات المليارات من الدولارات دون أن تحقق ما تستهدفه من السيطرة على العرض في السوق النفطية.

من المؤكد أن استراتيجية “أوبك” قد نجحت في إخراج عدد كبير من منتجي النفط الصخري من السوق، ولكن أحدا لم يسأل نفسه، بأي تكلفة تم هذا؟ وكم دفعت الدول النفطية ثمنا لهذا التطور؟ أما ما لم تقيمه “أوبك” بصورة جادة فهو انعكاسات سياساتها على السوق النفطية على المدى الطويل. إذ تشير التقارير إلى أن عصر النفط الرخيص سيبقى كما هو واضح لفترة طويلة، وأننا ربما لا نشاهد سعر الـ 100 دولار أو أي سعر يتجاوزها في الأجلين القريب والمتوسط. أكثر من ذلك فإن منتجي النفط غير التقليدي أصبحوا اليوم أكثر كفاءة وتنافسية في ظل الأسعار المنخفضة للنفط.

في ضوء هذه التطورات فإن السؤال الأساس الذي أطرحه اليوم هو: إذا كانت السوق النفطية قد استعادت توازنها، فما السعر الجديد للتوازن؟ مع الأسف الشديد أن السعر المقترح في ظل عودة التوازن للسوق النفطية لا يتجاوز 60 دولارا وفقا لمعظم التوقعات. معنى ذلك أن التوازن الجديد للسوق النفطية لا يخدم مع الأسف الدول النفطية، حيث لا يساعد ماليتها العامة، ولا يخدم مستهدفاتها الخاصة بقطع السبل أمام النفط غير التقليدي.

ربما قد يكون التوازن قد عاد للسوق النفطية، لكن المدافعين عن الحصص يبيعون اليوم كميات أكبر، بأسعار وإيرادات نفطية أقل، وبعجوزات مالية قياسية لم تشهدها تلك الدول من قبل، وبآفاق مستقبلية نحو مستويات ديون أعلى، وهي بكل المقاييس تكلفة هائلة لاستراتيجية خاطئة. إذ يقدر صندوق النقد الدولي خسائر الإيرادات النفطية لدول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بنحو 390 مليار دولار في عام 2015 وحدها بما يشكل نحو 17.5 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي.

الخلاصة هي أنه حتى مع عودة التوازن للسوق النفطية، فإن الدول المنتجة والمصدرة للنفط ستستمر تدفع ثمنا باهظا لاستراتيجيتها الحالية يتمثل في استمرار عجوزاتها المالية وتراكم ديونها سريعا، واستمرار تآكل احتياطياتها من النقد الأجنبي.

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

أ.د. محمد إبراهيم السقا

أستاذ الاقتصاد – جامعة الكويت
[email protected]
@elsakka

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *