يعمل كثيرون لترسيخ اسس الدولة الديموقراطية التي تسمح بالاحزاب والحريات الصحافية، ويرى هؤلاء ان تلك هي «الجنة الموعودة» التي يضحى بكل شيء لاجل الوصول لشواطئها الجميلة، كي نغادر الدنيا ونحن قريرو العين مطمئنون على مستقبل الابناء وابناء الابناء.
ما يفوت على دعاة تلك الجنة انها موجودة وقائمة على الارض في دول عدة، منها الشقيقة التوأم لبنان التي تحولت بحق الى «Failing State» او دولة منهارة ينام ابناؤها في الشوارع وتفرغ اجيالها الجديدة الواعدة طاقاتها بالصراخ والنوم في الخيام بدلا من الانتاج الجاد في المكاتب والمزارع والمصانع.
وما لا يقوله هؤلاء المنظرون الحالمون بتلك الجنة الموعودة انها ـ وكما يظهرها الواقع المعيشي ـ اقرب لجهنم الحمراء التي لا يود احد ان يعيش بها ابناؤه واجياله المقبلة، فلبنان الشقيق يتحول هذه الايام من حالة الفقر المؤقت الى حالة الافقار الدائم بعد تضاعف الدين العام عليه، نتيجة لمغامرات الحروب وفوضى الشوارع الطاردة لابنائه وكفاءاته، ولا يوجد ـ عند التمعن ـ فارق كبير بين عراق الامس ولبنان اليوم من دمار حروب وخراب بنيان واستهانة بكرامة المواطن ومستقبله.
ان الجنة الموعودة التي نبشر بها بعد كل تلك المآسي والكوارث هي «الدولة الانسانية» التي لا ترى في الانسان حيوانا سياسيا غوغائيا، بل ترى فيه مخلوقا اقتصاديا عاقلا يطور نفسه وذاته بالتعليم والتدريب المستمر لتحقيق احلام حياته في التنمية، ومعها تعزيز الحرية المسؤولة لا الفوضى، والديموقراطية المعمرة لا المدمرة، كي ترتفع معدلات الدخل العام في «الدول الانسانية» التي توفر العيش الكريم للمواطنين وتصون كرامتهم.
ولا يهم ضمن مفهوم «الدولة الانسانية» النمط السياسي السائد، فقد تكون لاسباب خاصة بظرفي المكان والزمان والتطور الاجتماعي ومرحلة التنمية السياسية محدودة الحريات بشكل مؤقت، بمعنى انها لا تسمح بالانفلات الحربي او «الانفلاش» الاعلامي والامني لخدمة هدف سام هو توطيد الامن والسلام الاجتماعي اللازمين كلزوم الهواء والماء لعمليات التنمية والرفاه الاقتصادي والاجتماعي، وقد تكون في مجتمع آخر، او في نفس المجتمع بعد زمن، منفتحة بالمطلق على الاحزاب والحريات السياسية، فالمهم هو استيعاب ان الحفاظ على الكرامة الانسانية والتطور العلمي والتنمية الاقتصادية والرفاه الاجتماعي يجب ان يقدم على ما سواه.
وحتى نزيد الصورة ايضاحا نقول ان العراق هذه الايام يمتاز بديموقراطية كاملة وحريات اعلامية غير منقوصة، ومع ذلك تمتهن انسانية الانسان فيه بأبشع الصور عبر القتل والتفجير والخطف والبطالة والمستقبل المظلم، بينما لا توجد ديموقراطية او فائض في الحريات الصحافية في امارة دبي التي ينعم كل من فيها بالراحة والرفاه والحريات الشخصية والمستقبل الباهر، لذا تتقدم دبي ـ اللاديموقراطية ـ كثيرا في مقياس «الدولة الانسانية» على جمهورية العراق كحال تقدم سنغافورة وهونغ كونغ محدودتي الديموقراطية المبهرتين اقتصاديا وعلميا على لبنان والاردن المقاربتين لهما في اعداد السكان والاكبر منهما مساحة والاكثر منهما في الموارد الطبيعية.
ان «كل» ما نقرأه من رؤى مستقبلية لدولنا العربية والاسلامية هو وصفات مجربة في دول شقيقة اخرى ادت بها للمهالك والدمار، والواجب ان نعتمد على فكر وتنظير جديدين يوصلاننا الى الجنة الموعودة «الحقيقية» لا للسراب المخادع وللماء الذي لا ماء فيه.
آخر محطة:
العزاء الحار لآل البعيجان الكرام بفقيدهم الكبير، للراحل الرحمة والمغفرة ولاهله وذويه الصبر والسلوان.