يطبع المكان صورته في وجدان الفنان المبدع، ثم تتحدث اللوحة عن ذلك المكان بلحظة وجوده وتحفظه خالداً من التلاشي في الزمن المطلق، ولا يبقى غير ذكرى الماضي. ونقل إلينا الفنان الكبير أيوب حسين- شفاه الله- ذلك الماضي بفرشاة الرسم المعبرة عن حياة الأمس, وترك لنا إرثاً رائعاً لهوية غابت وطمست اليوم في طيات حداثة وتفاهة السلعة في أكوان الاستهلاك والغرق بمادية النهم الاستهلاكي، أما السيد غانم يوسف شاهين الغانم فقد وضع القلم مكان فرشاة أيوب العملاق، وبسط لنا لوحات مخطوطة بخمسة كتب خطها من وحي ذاكرته، وتخبرنا عن أيام الجمال والقبح، وأيام بهجة البسطاء وليالي الشقاء، تذكرنا بالجميل والتراحم والقبيح الكريه حين يتشكل ببؤس الفقر والمعاناة.
بزغ قبل أيام نجم سهيل، وفي سهيل يقول الشاعر "… يا سهيل الجنوبي برده يأتي نسناس…"، ويكتب غانم "… ومن المناظر التي رأيتها أن المواطن يقضي تقريباً جزءاً من يومه منقع جسمه بالبحر وأما المرأة بغرفة الجليب وهي تلطف جسمها بالماء البارد يستخرج كأنه مثلج…" ويضيف غانم الشاهين "ومن الأشياء الواجب ذكرها أن الحمارة والجصاصة حميرهم تتعب بالصيف فيكون عملهم أكثر الأحيان بالليل أو أذان الفجر. ومن جراء ذلك ترتفع أسعار حطب البادية من عرفج وحمض… أما الذين يصيفوا بالخارج فإني أتذكر منهم الشيخ فهد السالم ومحمد العتيبي وزيد السرحان وهؤلاء وجهتهم لبنان وسوريا". ولنترك الصيف ونرى كيف يصف لنا السيد غانم حياة البؤس في مهن لم تكن تعيب الفرد كما يحدث بثقافة اليوم النفطية وإنما تشرفه فيقول "… من المهن التي عاصرتها أنني رأيت كيف كان المواطن يطرق البوادي بهذا البر الشاسع واضعاً على كتفه شوال (خيشة) وهو يرتحل على رجله خارج من بوابة الشامية أو نايف ووجهته البادية، وهو يتقصى خطوات الجمال الذاهبة والايبة… فعندما يتبعها يعرف بأنها وصلت آبار كيفان لترتوي ويقف بقربها ويضع (الشوال) على جنب وينتظر الجمال بعد ارتوائها وقد اخذت تلقي فضلاتها من بطنها فينتظرها حتى تجف من الشمس ثم يأخذ الجلة ويضعها بداخل الشوال…" لتباع بوسط الصفاة بالمغرفة (المغراف) التي تسع من كوب شاي اربع مرات. كان يباع هذا الكوب ما بين بيزة او بيزتين…" وتستعمل تلك الفضلات كوقود للطبخ.
ويمضي بنا غانم واصفاً الديرة حين تهجم عليها أسراب الجراد "… فما يأتي صباح باكر فإذا بالطبيعة تغيرت وأظلمت البادية والمدينة وغابت الشمس وتحول النهار كأنه ليل دامس. وما تمر ساعة أو ساعتين وإذا بهذا الظلام أسراب ملايين الجراد وقد حل بالمدينة وقراها وأكل الأخضر واليابس… وحلت بالمدينة وقراها كارثة. ومن كثرته امتلأ البحر بملايين الجراد فقذفته الأمواج على الساحل… (وحين يجف إضافة مني) يصبح كالخشب اليابس، فيأتي أصحاب المزارع والبهائم يحملوه على دوابهم ويذهبوا به إلى بيوتهم ويخزنوه بكميات كبيرة…".
"وهذا الجراد أكله الأوائل قبل الإسلام وبعد الإسلام لأنه نظيف ولا يأكل إلا الخضار والأعشاب. فهو عندنا أكل خضارنا وشجرنا انتقمنا منه فأكلناه مطبوخاً حاراً ومشوياً بلونه الذهبي…".
لن تتسع مساحة المقال لعرض الكثير من لوحات غانم شاهين الغانم في كتبه الخمسة… هي تستكمل أعمالاً قدمها المرحوم حمد السعيدان في الموسوعة الكويتية… وهي تضيف إلى كتابات الفاضل سيف مرزوق الشملان وصفحات من تاريخ الكويت للوالد يوسف بن عيسى وغيرهم حين تصور الذاكرة الاجتماعية للدولة بالأيام الخوالي. اقتبستها وعرضت بعض صورها دون محاولة تعديل الأسلوب واللغة المختلطة باللهجة الكويتية… تركتها على دفئها وببساطة روح صاحبها… ويبقى هناك الكثير، مثل أصل كلمة فريج سعود وسكة عنزة ومطير، وطحن الحبوب، والضريرين وعملهما العظيم في تنظيف "القلبان"… سأعود إليها إن شاء الله… بدون أن أنسى أن جراد الأمس كان حشرات ابتلعناها… أما جراد اليوم فهو بشر يبلعوننا ويهضمون غدنا… يهضمون الدولة… ونعجز عن هضمهم.