لفت نظري، وأنا أمارس الرياضة في النادي، صوت مقدم إعلان تلفزيوني وهو يعرض 10 شفرات حلاقة بخمسمائة دينار، وعندما تابعت الإعلان الغريب وجدت أنه يخاطب سكان العراق، وهذا باعتقادي أول إعلان تجاري أسمع به منذ عدة عقود، واعتبرته مؤشرا على بداية عودة الأمور، في تلك الدولة الغنية والسيئة الحظ، لأحسن مما كانت عليه حتى قبل انقلاب 1958 العسكري، وأن العراق، ولأول مرة في تاريخه الحديث، أصبح دولة يمكن للكويت التعايش معها بصورة طبيعية. فمنذ أول مطالبة عراقية بالكويت، والتي انطلقت في عهد غازي الأول من إذاعة قصر الزهور في بداية ثلاثينات القرن الماضي، والعلاقات بين الكويت والعراق في توتر مشوب بالحذر من طرف والخوف من الطرف الآخر إلى أن وصلت الأمور ذروتها بغزو صدام الكويت في 1990/8/2. وبالرغم من أن هناك من لا يزال مريضا بوهم تابعية الكويت للعراق، فان الغالبية العظمى من العراقيين وعت تماما أن كل تلك المطالبات لم تكن تهدف لغير إلهائهم عن حقيقة معاناتهم اليومية ومآسيهم ومصائبهم وضياع حقوقهم على أيدي الأنظمة الدكتاتورية التي حكمتهم، ولو نجح صدام في مسعاه الخبيث بضم الكويت للعراق لما نتج عن ذلك حتما أي تغير في مستوى معيشة الإنسان العراقي، ولا في زيادة دخله أو حقوقه المدنية، فالعراق لم يكن أبدا فقيرا، فعندما اجتاحت جيوش صدام الحدود العراقية الإيرانية عام 1980 كانت أرصدة العراق النقدية تزيد على ثلاثة أضعاف ما كانت تملكه الكويت وقتها، ومع هذا ضيع القائد المجرم تلك الثروة النادرة في نزواته وفساد أهله وحروبه العبثية، وبقي الشعب العراقي على تخلفه وجهله وأمراضه، إن لم تزد بكثير.
إن العراق، باعتقادي، سائر حتما في طريق الاستقرار والحرية والديموقراطية بالرغم من كل ما يجري فيه الآن من صراع سياسي وتشتت قبلي وطائفي، وكل تلك المظاهر المسلحة والميليشيات الخاصة والفساد المالي والإداري الذي يعصف بكيانه، إضافة لكل تلك التفجيرات العشوائية التي تقوم بها جماعات إرهابية حقيرة، إلا أن من الصعب أن نتجاهل أن الإنسان العراقي أصبح الآن يشعر بأمان لم يعرفه لسنوات، بعد أن انتهت دويلات المخابرات وزوار الفجر والإعدامات السياسية والقبور الجماعية.
ربما يعتقد البعض أننا نحلم ولكن الانتخابات الأخيرة، التي أجمع المراقبون على نزاهتها، والتي شارك فيها أكثر من %60 خير دليل على بداية عودة الأمور لطبيعتها وأصبح بإمكان العراقي أن يقول لغالبية الشعوب المجاورة له «Eat your heart»، ويكفي أنه أصبح بإمكان مواطن كفرج الحيدري، مفوض الانتخابات، رفض الأمر الصادر له من رئيس الوزراء وتجاهل طلب رئيس الجمهورية بضرورة إعادة عملية عد وفرز أصوات الناخبين، وأن يعود في نهاية اليوم لبيته لينام قرير العين من دون خوف من الاعتقال.
* * *
ملاحظة: سيأتي يوم ينصف فيه التاريخ دور الرئيسين بوش ودور الكويت في تحرير العراق.
أحمد الصراف