هذه فكرة سبق أن كتبت مثلها في الأزمنة السحيقة، في أول شهر كتابة، عندما كان لا يقرأ لي إلا المصحح وشقيقي منصور وذوو القلوب الرحيمة. واليوم أعمل للفكرة "ريسايكلنغ" وأعيد تكريرها وتصديرها مع بعض الإضافات والتوابل…
نحن الشعوب العربية – أجلكم الله – الأقل ولاء لبلداننا، ونحن الأكثر تنطعاً وتغزلاً في حبها بين الشعوب. خذ عندك أغاني وطنية، وخذ احتفالات برغوة، وخذ مسيرات ورفع أعلام، وخذ مقالات كتّاب، في حين أنك لن تلاحظ مثل هذا التصنّع بين الشعوب التي تحتل بلدانها المراتب الأولى عالمياً، كفنلندا وآيسلندا وهولندا والنرويج، التي ترتفع فيها مؤشرات الإنتاج والتنمية الإدارية والحقوق المدنية والشفافية والاستقرار النفسي وبقية المؤشرات الدالة على الرفاهية. وهنا أرجوك ألا تقنعني أن ولاء الفنلنديين لوطنهم يعادل ولاء العربان لأوطانهم.
خذ الكويت والكويتيين مثالاً، ثم ارمِ المثال وارم الكويتيين واغسل يديك جيداً… فبعض الكويتيين لا يشعر فقط بعدم الولاء لبلده، بل يكرهه. ولا تصدق ما نقوله عن اشتياقنا أثناء السفر إلى الكويت، واللهفة على غبارها ورمالها وطوزها وكوسها فهذه "كليشة" نرددها كالببغاوات والغربان والخفافيش.
ولا أظنني في حاجة إلى سَوْق الأمثلة على كره هؤلاء الكويتيين لبلدهم، ولا على سوء إدارة الحكومة التي قادت إلى إضعاف الولاء في صدور الناس، فالأمثلة تسوق نفسها بنفسها وتكفيني العناء، وهي أكثر من التفاح في تشيلي، ومن الفضة في الأرجنتين، ومن أكياس الزبالة في مصر.
ولو نظرنا إلى دول العالم الثالث، لشاهدنا بوضوح كيف يجيّر الحاكم دولته وشعبه وخيرات البلد لأبنائه وأقربائه، إذ هم الوزراء وهم الوكلاء والمسؤولون والتجار. والأجهزة والمؤسسات الحكومية في خدمتهم. وستجد – يا للطرافة – هؤلاء هم الأكثر حديثاً عن الوطنية وعن الولاء ووجوب التضحية وحقوق الدولة على المواطنين. وهنا تذكرت اللقاء الذي أجرته إحدى المجلات المغربية مع ممثلة أفلام بورنو وخلاعة، وهي فرنسية من أصل مغربي اسمها ياسمين، إذ قالت ياسمين رداً على سؤالها عن نظرتها إلى الفتيات المغربيات: "لا مانع من أن يواكبن العصر، لكنني للأسف أراهن في طريق الانحلال، ويجب على الدولة توعيتهن وتذكيرهن بالعادات والتقاليد المغربية المحافظة". أي والله، هذا ما نقلته مجلة "تيل كيل" المغربية عن ياسمين، وهذا ما نقلته الصحف عن أولئك الوزراء. ومفيش حد أحسن من حد.
ومن الجهة الأخرى، يرفع المشعوذون والحواة أيديهم في خطب الجمعة: "اللهم أصلح بطانة وزرائنا"! على اعتبار أن الوزراء، اسم الله عليهم، تقاة غرر بهم رفقاء السوء، المستشارون الفاسدون المحيطون بهم. ولطالما حاول الوزراء، يا كبدي، إبعاد مستشاريهم لكنهم عجزوا، ولطالما صرخوا في وجوههم: "ابعدوا عنا يا أشرار يا ويلكم من الله"، لكن لا حول ولا قوة، ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به. وإذا صرخنا: "بعض الوزراء أفسدوا في الأرض وأضرّوا بالناس وقتلوا الولاء"، صرخ الحواة: "هذه الخادمة الآسيوية تلبس البنطلون الضيق… واإسلاماه"، وارتفع صوتهم فغطى على صوتنا… كلهم أعضاء فريق واحد، المستشارون والدراويش، عيال الـ… ياسمين.
وزراعة الولاء كزراعة الخضراوات، ما لم تتوافر الشمس والماء والطقس المناسب، فلا بطاطس ولا طماطس ولا جرجير ولا لياليَ حمراء، وما لم تتوافر الحكومات القدوة فلا ولاء. ولا أظن أن الولاء سيملأ الصدور ما دام أكثر الأمثال شيوعاً عند الحكام الظالمين هو "جوّع كلبك يتبعك"، على أساس أن شعبه كلب… وهو ابن شعب.