ما إن انتهت عملية التحرير وسارت السفينة في طريقها تتهادى بكل جلال حتى هبت ريح شمالية قوية عليها، ما لبثت ان تحولت لشرقية عاتية قبل ان تنتهي لجنوبية قاتلة ارتفع خلالها الموج عاليا، ولكن الأمور هدأت فجأة ولكن بعد ان تركت وراءها عددا من الضحايا والخسائر المادية، وبيّنت، وما سبقها من تجربة الاحتلال، مدى الحاجة لمشاركة الآخرين الرأي وعدم التفرد به، وان العودة لبرنامج التعاون السابق على الاحتلال هو الافضل. وعلى الرغم من اتفاق الجميع على ذلك فان التعاون لم يستمر طويلا، حيث اعتقد كل طرف ان الطرف الآخر يعتدي على «صلاحياته»، مما اضطر لحل لجان التعاون والتفرد، فساد التذمر والاحتجاج، ولكن مقاومة الركاب وبعض البحارة السلبية اعادت اللجان للعمل بروحية جديدة، مما كان له احسن الأثر في احداث تغيرات ايجابية ساهمت في تطمين النفوس القلقة، وتبين انه كان القرار الافضل لسلامة المركب وبحارته وقاطنيه.
سارت الامور على ما يرام لفترة، ولكن دوام الحال من المحال، فقد بدأت العلاقة بين الطرفين بالتخلخل، بعد ان اكتشف احد اعضاء اللجان الفرعية قيام بعض البحارة بالاستحواذ على كميات من طعام اكثر من حاجتهم، وقيام بحارة آخرين بالضغط على الربان لاعطائهم مساحات اكبر من السفينة لمزاولة تجارتهم ورغد عيشهم. وهنا بدأت عمليات الشد والجذب واضطر النوخذة للتدخل ووضع حل لخلافات البحارة والركاب، ولكنه غض الطرف عن بعض التجاوزات، مما ترك اثرا سيئاً في نفوس البعض وزادت الاعتراضات السلمية على ما يرتكب من مخالفات، الامر الذي دفع الربان لحل اللجنة مرة اخرى، لم يقبل الركاب بالوضع واستمر الشد والجذب بين الطرفين وانتهى الامر بتشكيل لجنة رئيسية جديدة.
سارت الامور لفترة على ما يرام ولكن النوخذة وبحارته احسوا ان من الافضل شراء ولاء فئة من الركاب لمساعدتهم في السيطرة على الاوضاع في السفينة، وهكذا سهلوا امر فئة محددة واطلقت يدها في العديد من المجالات، وبدأ هؤلاء بمصادرة كل الآلات الموسيقية بحجة انها «حرام» ثم تبعوها بأوراق اللعب وصادروا الكتب ومنع الجديد منها، وأصبح اداء الشعائر الدينية اجباريا وتم تقنين المؤن الغذائية بحيث تكون الاولوية في التوزيع للمرضي عنهم، وسنت انظمة تحرم الكثير على الاقليات وصودرت صحون التقاط القنوات، وطلب من النهام الجديد، الذي تحول سلفه لمؤذن، الابتعاد عن الشدو بأغاني الامس لاحتوائها على ما يخدش مشاعر البعض، ومنعت الافلام والمسرحيات وحتى الصور المتحركة لكونها مفسدة للاخلاق، وقصروا اطوال ملابسهم واطالوا لحاهم واستبدلوا فراشي الاسنان بمساويك، ولم تلق اعتراضات الركاب اذنا مصغية، وتدنى مستوى المعيشة وغادر البعض السفينة وفضل آخرون الانزواء والتفرغ لاعمالهم والسكوت على كل تجاوزات الملالي الجدد، وهذا افسح المجال للقطط السمان بحيث اصبح «المخامط» السمة السائدة، واصبح الملالي سادة الساحة وأصبحت السفينة، ولأول مرة، معرضة للخطر من الداخل، فهل ستنجو من هذه الكارثة؟
أحمد الصراف