ما ان مر عام على اختيار الشيخ الجليل لقيادة شعبه الصغير حتى جمعهم في ساحة صافية وخطب فيهم قائلا ان أرضهم أصبحت يابسة وسهولهم جدباء وآبارهم جافة وزرعهم قليل واعداؤهم كثر يتربصون بهم من كل صوب، وانه يقترح عليهم بناء سفينة لم ير البشر مثلها منذ ايام سفينة نوح، لتكون وطنا عائما وابديا لهم!
نظر الجمع الغفير بعضه الى بعض وهو بين مؤيد ومعارض ومصدق ومكذب، وتعالت أصوات الاحتجاج والقبول والرفض والتأييد، واستقر الرأي على تشكيل لجنة للالتقاء بالحاكم الجليل ومناقشة الامر معه، وفي يوم اللقاء دافع شيخهم عن فكرته وقال ان اختيار السفينة وطنا سيحل جميع مشاكلهم وسيكون بامكانهم التنقل من ميناء لآخر ومن ساحل لثغر، وسيكون لديهم غذاء وفير وماء عذب وسيزورون أمصار العالم ويتاجرون باللؤلؤ والمرجان والخشب والدخان وبالتمر والرمان، وستكون السفينة ملاذ الباحث عن الأمان والمستجير من بطش سلطان والضعيف الهارب من هوان والجائع وفاقد الأمل واليائس الطفران، وسيتعاون الجميع بحارة وركابا في تسيير شؤون السفينة كل بما يستطيعه او يتقنه، ففيهم النجار والبزاز والتاجر والجزاف واللحام والفحام والغنام والنهام وبائع الكاز والصراف والعسكري والمعلم والدلال والحداد والقطان والقلاف، وسيلتحق بهم في اي ميناء من شاء، فهنا الوطن يذهب الى من هو بحاجة اليه وليس العكس، وستكون السفينة للجميع ينصهرون فيها مع الوقت وتظللهم سماء واحدة ويجمعهم علم وقائد ونشيد ولهجة واحدة، والاهم من ذلك مصير واحد، وستكون تجربة فريدة تروى عبر التاريخ، فلم يسبق للعالم ان مر بما يماثلها.
بعد جدال قصير ونقاش اقصر وافق الجمع على فكرة الشيخ الكبير وتعهدوا باقناع بقية الشعب بها، وهكذا بدأت ورشة بناء السفينة، التي شارك فيها الشيب والشباب، وما هي الا اشهر معدودة حتى جهزت للابحار بعد ان زودت بكل احتياجاتها لتغادر مرساها وآهات ركابها تنطلق من كل صوب وهم يلقون النظرة الاخيرة على تلك القطعة اليابسة التي لن يروها مرة اخرى. وكلما القى المركب بمرساته في ميناء ما وسمع الجياع والمظلومون بقصته والتحقوا به، تكرر مشهد التأوهات وذرف الدموع على أرضهم التي لن يروها ثانية.
أحمد الصراف