أكرر دائماً: «الإبداع يأتي – غالباً – من الخلف، من المجتمع الخلفي»، وأصدق من يقول إن: «الإبداع يحتاج إلى وقود، إلى معاناة». والأوراق المصقولة التي لقحتها أقلام ألمانية وإيطالية باهظة الثمن، تلِدُ إنتاجاً هشاً، رخواً، يتكسر وهو يمشي، لا آه فيه ولا دمعة حارة ولا ضحكة صافية. إنتاج بلا فلفل ولا ليمون ولا نكهة.
وفي بدايات القرن العشرين، انتقل أمير الشعراء أحمد بيه شوقي إلى القصور، إلى حفلات الكوكتيل، إلى الشبع حد التخمة، فداخلَهُ الغرور، وكتب عن شعر «ابن الرومي» ينتقده، ونشرت الصحف ما قاله بتطبيل وتزمير، تقرباً من شوقي وتزلفاً إلى القصر، فتصدى له شاب مجهول، لم يسمع باسمه أحد من قبل، سلتوح صعيدي رث الثياب، لم يكمل دراسته الابتدائية، وبيّن لشوقي خطأه، بالحجة والدليل، ولم تنشر مقالته إلا صحيفة واحدة، فانبهر الناس من جرأة هذا الشاب المجهول، ووقاحته، وراحت الصحف توبّخه وتقلل من قيمته، لكن شوقي أدرك أنه أمام موهبة، فردّ عليه (قيل إنه ترفع عن الرد عليه، وكلف آخرين بالرد نيابة عنه)، فردّ العقاد، ورفضت الصحف التي بروزت ردود شوقي نشر ردود الشاب المجهول، إلا الصحيفة تلك. واستمر التراشق الأدبي، بين أعلى هامة أدبية في مصر والعالم العربي، وبين مجهول فقير. وكتبت إحدى الصحف تستهزئ بالشاب: «من أنت؟ ومن أين جئت؟»، فأجابها: «اسمي عباس العقاد، جئت من أسوان». فسخرت الصحافة وشخرت. لكن شوقي اعترف بعظمة هذا الشاب، وانتصرت حجة العقاد، واعتمدت وزارات التربية والتعليم في العالم العربي تدريس شعر «ابن الرومي» بسبب تلك المناظرة الصحفية بين العظيمين، شوقي والعقاد. وكتب أحد المثقفين المحايدين: «ابحثوا عن الكنوز في المناطق الفقيرة، بالقرب من عباس العقاد». وبدأت ما تسمى بـ»ثورة الأفندية»، أي البسطاء، وامتلأت الصحف والمكتبات بإنتاج المبدعين الفقراء، أبناء الريف والمناطق الخلفية، ونهضت مصر، فقتلتها الثورة.
الإبداع يأتي من الخلف، من تحت الركام. وفي الكويت، يعلّق على مقالاتي شاعر مبدع سبق أن كتبت عنه، اسمه «أبو مشاري المطيري». بهر الجميع بعمقه وموهبته، وكان موضوع نقاشات كثيرة وطويلة جمعتني مع الأصدقاء. حرصت على أن أتعرف عليه فاكتشفت صدق قناعتي السابقة. موهوب أتى من المناطق الخلفية. صحيح أنه لا يقرأ الكتب ولا الروايات، وصحيح أنه اكتسب ثقافته ومبادئه من بيئته، المغلقة أساساً، التي ترى أنها هي الأفضل على ظهر الكوكب، رغم أنها عكس ذلك، واكتفى، لكن هذا لا يمنع من الانحناء أمام عظمة موهبته التي صفق لها متابعوه.
موهوب آخر اسمه «فلاح الشعلاني» يكتب في جريدة «عالم اليوم»، ساحر فنان، سيكون له شأن. وآخر يكتب في الصحيفة نفسها اسمه «عبدالهادي الجميل»، شفاف، يشاركني الإعجاب في ما يكتبه عدد من الزملاء، مثلي يتابعونه. راسلته: «أنت موهوب، أستمتعُ بمتابعة إبداعاتك»، فأجابني وهو يجلد ذاته: «أنت تتابعني بإعجاب، وأنا أتابعك لأتتبع زلاتك، وهنا الفرق»، هاهاها. ورابع يكتب في هذه الجريدة اسمه «علي خاجة»، موهوب جداً. هاتفته: «أنت موهوب، يعيبك التبرير، لست سياسياً كي تبرر، اضرب ضربتك وأرِق دماء فكرتك، وغادر المكان بسرعة. اترك مسرح جريمتك خلفك للشرطة والقراء يبحثون عن إدانتك أو تبرئتك». هؤلاء الكتاب الثلاثة الموهوبون لا يعانون أمراض الفئوية والطائفية المنتشرة في الكويت كالوباء، ولا ينتهجون القص واللصق من الإنترنت، ولا يحصرون عقولهم في اتجاه واحد إجباري، جلودهم ناصعة النقاء، وهذا هو أحد أسرار تفوقهم، وعسى ألا يلوثهم غبار التمزيق.
الموهوبون في الكويت كثر (أنا هنا اتحدث عن الشباب، ولا أدري هل عبدالهادي الجميل شاب، أم كان شاباً)، ولا أدري لماذا تصر صحافتنا على أسماء بعينها، على الماركات المشهورة، تستقبلها في صالة التشريفات وتفرش لها البساط الأحمر.
الإبداع يأتي من الخلف، كتابة وشعراً. والفقر الذي نعانيه في أغانينا الوطنية سببه سيطرة بعض شعراء اللزوجة على الساحة.