د. شفيق ناظم الغبرا

المسألة الطائفية في الكويت

الطائفية حية في الكويت كما هي في أرجاء العالم الإسلامي والعربي كله. فما نشاهد في منطقتنا يعكس أزمة العلاقة بين الطوائف. وقد اكتسبت المسألة الطائفية في الكويت الكثير من الزخم منذ بروز الحركات الدينية السنية والشيعية في أواخر السبعينات. ولكن التعصب القومي العربي في الستينات والخمسينات من القرن الماضي هو الآخر أثار صراعاً بين من هم من جذور عربية ومن هم من جذور فارسية في منطقة الخليج وفي الكويت. ولكن ذلك كان أقل حدة من الطائفية التي فرزت الناس على أسس مذهبية إبان الأعوام الخمسة والعشرين الأخيرة. ويمكن القول إن التحكم السني، على سبيل المثال، في العراق السابق في زمن صدام حسين المقرون باضطهاد الشيعة المنظم هناك قد ساهم في مزيد من الطائفية ليس فقط في العراق، بل في أكثر من مكان في العالم العربي، بما في ذلك الكويت. ففي زمن الحرب العراقية ـ الإيرانية التي اشتعلت عام 1980 تعمقت الطائفية في الكويت لأسباب عدة من أبرزها وقوف الكويت ومنطقة الخليج إلى جانب صدام حسين خوفاً من تصدير الثورة الإيرانية للمنطقة. وقد أدى هذا إلى صراع بين فكر التشيع الديني وبين فكر عربي متعصب غذته الحرب بين العراق وإيران يركز على المواجهة بين أن تكون عربياً أو أن تكون شيعياً. في هذا أصبح الخلاف بين السنة والشيعة في الكويت أكثر خطورة، في تلك المرحلة الحساسة وقعت في الكويت ودول أخرى في المنطقة تفجيرات عدة بتنسيق مع منظمات مدعومة من إيران. في ظل هذه البيئة وقعت تفجيرات السفارات في الكويت، خطف الطائرات وبرز دور عماد مغنية في مرحلة عرفت باسم الإرهاب الشيعي في الثمانينات، وهو الإرهاب الذي مهد للإرهاب السني وإرهاب «القاعدة» في التسعينات.
تأبين مغنية مظهر من مشكلة أعمق تساهم في حالة الفرز بين الناس. فهناك من انتقد التأبين من منطلق وطني لشخص ساهم في قتل كويتيين (ولا يخفى أن هذا يمثل نسبة كبرى من الناس في الكويت) وهناك من هاجم التأبين موزعاً الاتهام على جميع أبناء الطائفة الشيعية من منطلق طائفي، وهناك من رفضه من منطلق سياسي، وهناك من أيده من منطلق الحرية الشخصية، أو من منطلق حق التأبين لمن فقد حياته، هناك من أيده من منطلق تضامني مع «حزب الله» وموقفه السياسي من إسرائيل. هكذا تحول التأبين إلى رمز آخر من رموز أزمة الكويت وأزمة المنطقة التي تؤثر على دولها بطرق مختلفة.
إن أخطر ما وقع أخيراً في ظل تأبين مغنية اتهام الطائفة الشيعية باللاوطنية وعدم الانتماء، ما يساهم في دفع فئات شيعية لم تكن تتعاطف مع التأبين أو مع موقف عماد مغنية إلى مواقع الدفاع، كما أن هذا الأمر يعود ويدفع الكثيرين من السنة إلى مواقع الفرز. وهذا بدوره يدفع بالأقلية التي تسعى إلى رفض الفرز الطائفي إلى الانعزال والشعور بفقدان المبادرة. هذه خطورة التجاذب في هذا الشكل الذي نعرفه الآن.
لكن هذه المرة الخلاف الطائفي مختلف، فهناك حضور لإيران ذو طابع ديني وسياسي، وقد انعكس هذا على قطاع كبير من الشيعة في العالم، ممن شعروا بشكل طبيعي بنوع من العزة والكرامة الناتج عن وجود دولة شيعية تمتلك مفاتيح القوة والتأثير وتتبنى القضايا العربية والإسلامية. وهذا الشعور بطبيعية الحال طبيعي. لقد شعر العرب بالتحديد من الخليج إلى المحيط بالكثير من العزة ببروز عبد الناصر والقومية العربية في الخمسينات، وشعر اليهود بالكثير من الارتباط بإسرائيل بعد عقود من الاضطهاد في أوروبا، وهم اليوم يشعرون بارتباط خاص بها، كما شعر الفلسطينيون بالعزة ذاتها مع بروز المقاومة في السبعينات والانتفاضة الأولى. ولهذا لا يمكن استثناء الشيعة عما يحصل في العالم من ارتباط عابر للدول. فهذا في جله طبيعي ولا يشترط أن يكون على حساب الدولة والوطنية. فهناك اليوم هويات كثيرة مترابطة ومتشابكة في منطقتنا. ما يقع في إيران سيؤثر في الكويت، وما يقع في العراق سوف يؤثر في محيطها، وما يقع في الكويت هو الآخر سيؤثر في منطقة الخليج، وما يقع في الصراع العربي ـ الإسرائيلي سيؤثر على المنطقه برمتها.
ونتساءل وهذا هو بيت القصيد: أين نحن من بناء وطن حديث، بينما الناس تتشيع وتتسنن ووتمعن في الولاء القبلي والعائلي كبديل عن النقص في بعض أسس الدولة؟ ماذا فعلنا لتربية جيل جديد يشعر بالحاجة إلى الحرية والمسؤولية في الوقت نفسه، ويشعر بالحاجة إلى الوطنية بتوازن مع الفردية أمام الانتماءات الأصغر الدينية الطائفية الأخرى؟ هل فكرنا في أثر التعليم على الجيل الصاعد؟ هل فكرنا في أثر ما يمارس في الكثير من سياسات البلاد على الأجواء العامة لبناء وطن متحد في ظل التعدد؟ ألا يرى المعنيون أننا نتعامل مع القضايا الخاطئة في الكثير من الأحيان ونترك الجوهر للصدفة؟ إننا لا نعرف ماذا نريد ولا نعرف كيف نصل إلى ما نعتقد أننا نريده. في هذا المجال تبرز قضية مغنية بأكبر من حجمها، وتبرز قضية الدواوين المخالفة، وتبرز قضية الاختلاط، وقضية زيادة الرواتب، وينتج عن ذلك ضياع عام بين أمور لا ترتبط برؤية أو هدف أو مستقبل.
إن التعامل مع الجدران التي ترتفع في الكويت اليوم بين الطوائف (شيعة وسنة) لن يكون ممكناً بلا انفتاح على مشروع وطني أوسع يجمع الكويتيين كلهم. المشروع الوطني الأكبر الذي يحوي رؤية للوطن ورؤية للمستقبل هو الوحيد القادر على أخذ البلاد، بعيداً عن الهويات الصغرى. إن الوطنية لا تتم بقرار، بل تتم من خلال بناء مناهج تفصل الدولة عن الصراع المذهبي والديني والطائفي والليبرالي ـ الإسلامي، وذلك لتكون الدولة للجميع وتؤمن المساحة للجميع. ويتم ذلك من خلال مناهج تربوية تعزز التفكير العلمي والعملي والعقلاني فوق كل اعتبار ومن خلال إرساء مبادئ المساواة وتكافؤ الفرص بين الفئات والأفراد وجعل الكفاءة معيار التميّز. إن مشروع التنمية يتطلب حديثاً صريحاً بعيداً عن الاتهام والاتهام المتبادل.
لقد وقع خطأ في تأبين مغنية، ولكن ردة الفعل في توجيه الاتهام للطائفة الشيعية كلها والتشكيك بولائها هي الأخرى خطأ في الاتجاه الآخر. لست متأكداً إلى أين سيأخنا هذا كله، ولكن المقدمات ليست مشجعة، وعلى الحكماء أن يتعاملوا مع ما يساهم في حماية البلاد، رغم حدة التغيرات المحيطة بنا. إن سوء التعامل مع ظاهرة قد يحولها إلى مشكلة. وهذا ما نواجهه الآن.

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

د. شفيق ناظم الغبرا

أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت
twitter: @shafeeqghabra

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *