ذكرنا في مقال أمس ان الطائرات المصرية ضُربت على الأرض وهو أمر يمكن بسهولة تعويضه نظرا لنجاة الطيارين المصريين، وكانت الحالة الاقتصادية شديدة السوء في مصر بعد تطبيق التأميمات الاشتراكية العبقرية ابان حقبة الستينيات، وقد وصلت الى حد تم فيه وقف الطيارين عن التمارين الجوية قبيل الحرب بحجة ترشيد الإنفاق وقد كان هناك 8 طيارين لكل طيارة حربية.
مما سبق نجد ان المنطق والعقل السليم (لا الغوغائية) يتطلبان ان يمد النظام المصري في الهدنة التي بدأت فور انتهاء حرب الأيام الستة حتى يمكن له الحصول على الأسلحة وتدريب الطيارين استعدادا لجولة تحرير الأرض، والطيار والمقاتل المصري ليسا أقل قدرة من الاسرائيليين.
بعد سقوط عامر تولى القيادة شخص آخر محدود القدرات هو الفريق محمد فوزي الذي يقول الفريق عبدالمحسن مرتجي ان سبب اختياره للقيادة انه كان أول من رد على هاتف عبدالناصر فور عزل المشير عامر.
في يناير 91 ارسل الفريق المتقاعد فوزي رسالة مفتوحة لصدام نشرتها جريدة «مصر الفتاة» التي كان يرأس تحريرها مصطفى بكري قال فيها ان الهجوم الاميركي الرئيسي سيأتي من البحر (الشرق) وان خسائر الهجمة الأولى ستزيد على 200 ألف قتيل اميركي مما سيجعل الشعب الاميركي يثور على قيادته ويوقف الحرب الهادفة لإرجاع حاكم الكويت لعرشه (كما أتى في الرسالة).
بدأت حرب الثلاث سنوات بقرار سياسي خاطئ من ناصر (ما الجديد؟) وعسكري من فوزي ودعم تنظيري وإعلامي من هيكل (ما الجديد كذلك؟) والحقيقة ان الكارثة الحقيقية ليست حرب 67 بل حرب الاستنزاف، فعنصر المفاجأة في الأولى قد يبررها أما الثانية فهي هزيمة أو جريمة تمت مع سبق إصرار وترصد، فالثانية لا الأولى هي التي تسببت بتهجير مئات الآلاف من سكان مدن القناة، والثانية لا الأولى هي التي أغلقت القناة وحرمت مصر من مواردها، والثانية لا الأولى هي التي تسببت بالذبحة الصدرية الأولى لعبدالناصر بعد فضيحة رادار الزعفرانة، والثانية لا الأولى هي التي أرغمت ناصر على القبول بمبادرة روجرز بعد ان تمخضت نكسة 67 عن لاءات الخرطوم الثلاث.
قامت فلسفة حرب الاستنزاف العبقرية على استنزاف اسرائيل كما هو مسماها، والشيء البسيط الذي تم تناسيه من خطط لتلك الحرب الغبية هو رد الفعل الاسرائيلي عليها، فلم تعطل حرب الاستنزاف الاقتصاد الاسرائيلي أو حتى تؤثر عليه كون الحرب قامت في الجانب الاسرائيلي على الجنود المتحصنين في خط بارليف، الا ان الدور الرئيسي في تلك الحرب لعبة سلاح الجو الاسرائيلي الذي استغل قوته وهيمنته فصال وجال في الأجواء المصرية فأوقف عمليات اعادة بناء المطارات والمنشآت العسكرية وقام بضرب المصانع والمزارع والمدارس لاظهار ضعف قدرات القيادة المصرية واثارة حنق الشعب المصري عليها، ولم تسقط في تلك الحرب وخلال 3 سنوات طائرة اسرائيلية واحدة، وقد اثنى فيما بعد المضللان هيكل وفوزي على تلك الحرب الخاسرة.
والملاحظ ان القبول العاقل والمضطر لمبادرة روجرز قد أعطى مصر أخيرا فترة الهدوء اللازمة التي كان يفترض ان توفرها هدنة ما بعد حرب 67 والتي أوقفتها ومنعتها حرب الاستنزاف، لذا لم تقم حرب أكتوبر المجيدة إلا في عام 73 أي بعد 3 سنوات من الهدوء والعمل لإعادة البناء العسكري، وقد كان بإمكان تلك الحرب المجيدة ان تحدث في عام 70 لو لم تقم حرب الاستنزاف.