تشع علينا كل عام في شهر رمضان فلسفة ثقافة الغبقات حين تستحوذ على الحيز الكبير في معظم جرائد الصحافة الكويتية، وتكثف كثيراً في صفحات المجتمع كي تتألق بها صور أهل الصيت مسلطة الضوء على أهميتهم ومركزهم الاجتماعي المبهر. الشيخ الفلاني يتوجه إلى غبقة فلان… والشيخ الآخر بدوره يقيم غبقة رمضانية لرجال الإعلام أو لتنظيمات سياسية كانت تقف طرفاً نقيضاً في انتقاد السياسات الحكومية، إلا أنه اليوم هناك هدنة الشهر المبروك تبزغ ببركاتها ورياء أشخاصها، وتشع بها أنوار الرحمة والتواصل بين اللاعبين السياسيين، وتركد معها أتربة معارك "دون كيخوته" بين رموزنا السياسية وخصومهم. الابتسامات الدبلوماسية والمجاملات تطفح متورمة على وجوه السياسيين أصحاب القرار تصاحبها مجاملات خاوية من الطرف الآخر تفرضها الأخلاق الكريمة للشهر الفضيل… السياسة والاقتصاد يغطان في نوم عميق في إمبراطورية مركز الكون الكويتي، لكنها في الرمضانيات الصيفية، تخنقنا مع شخيرها لزوجة الرطوبة والأغبرة المعلقة بين السماء والأرض، وتلفها الاختناقات المرورية، ثم السيارات المتلاصقة على خلاف قوانين الوقوف قرب بيوت الله حين تغلق الدروب في ساعات صلاة التراويح وبعدها، وتتعالى الأسوار صعوداً محتضنة سجون الكويت الروحية.
الكثيرون، وأنا منهم، يغلقون أبوابهم في زنازين المنازل، فلا حاجة إلى تدوير سويتش السيارة حتى تحشر في علب السردين المرورية بالشوارع… وماذا ستجني في النهاية لتبارك في صالات "ثنك تانك" بمراكز العلم والثقافة بالدواوين الكويتية… عبارات تتردد كل مساء وفي كل عام رمضاني مثل: مبارك عليكم الشهر… والحمد لله لا جوع ولا عطش… صبوا القهوة… هات البخور يا ولد فعندنا زائر كبير… تفضلوا على الحلويات والموالح يا جماعة… وبعدها… يستهل سيل من الأحاديث الساذجة عن الأحوال الاجتماعية العامة وأخبار منقولة عن وكالات "يقولون… وسمعنا" تتخللها فواصل من النكات السمجة… ثم تأتي حفلات السحور العامرة… وتنتفخ البطون من بركات "الخير والنعمة"… ويمضي بعدها الجميع إلى حالهم بعد ساعات طويلة قضوها في بحوث عميقة لعلم الاجتماع الكويتي… ماذا قبضت؟ لا شيء غير اجترار عبارات تعيد مضغها كل عام في دنيا الخيرات الروحية حين بزغت من باطن الأرض.
مسكينة صحافتنا المسائية… فلا أخبار يكترث لها القراء… غير قط ينط على قطة… والشرطة تلقي القبض على فاطر دخن سيجارة وخرق قانون المجاهرة بالإفطار… ثم هناك إعلانات تجارية فوق إعلانات تجارية تنفخ صفحات ملونة عريضة تضج بينها لقطات أخبار جدباء تؤكد بتصميم كبير ثقافة الاستهلاك حين سكن سرطانها نفوسنا وأضحى وعينا سلعة من سلع الفرح العابر بمدينة الأحلام والمركز المالي التجاري القادم بعلم الغيب… ثم هناك المسلسلات الرمضانية الساذجة تفرض بعد الفطور قليلاً من الوقت كي تهضم البطون المرتخية أكوام التشريب وتلال الهريس وتختم بحلوى اللغيمات وصب القفشة تسد الكروش وتخدر العقول.
أما كتابنا… فكثير منهم أيضاً مساكين… فلا مجلس ولا حكومة… ولا فسحة مكان للتعليق على أخبار تنتقد رأي أو مشروع هذا النائب أو ذلك الوزير… أما أخبار العالم… فلا تهم القارئ الكويتي… فقد حشر في وعينا بعد التحرير أن الكويت مركز الكون… ونحن نكتب من أجل ما يريده القارئ، لا من أجل الفن والإبداع… والحصفاء من كتابنا هم من أخذ إجازته مع عطلة المجلس… فمع غيابه ترتاح وتعطل الحكومة… فالكل هنا بإجازة صيفية وبجوفها تسكن بخدر وسكون إجازة رمضانية تسورها حوائط عالية من الملل والسأم… علينا في النهاية ملء الفراغ بفراغ فكر آخر ينبض بكلمات الخواء…!
لنتوقف الآن ونتأمل قليلاً دراريع بعض نسائنا المزركشة بألوان الوردي والأصفر والأحمر في ليالي الشهر قبل زيارتهن لغبقات المساء غير المختلطة… فهن يقمن بعروض أزياء لعالم ما بعد الحداثة الكويتي في صالات الدراريع والنضال من أجل كاميرات حقوق المرأة… وما عليهن غير انتظار الرجال حين يعودون منهكة بطونهم من غبقات الفكر العميق في دواوين رمضان… الحمد لله… العالم بخير ونعمة… مادامت الكويت بخير ونعمة… وكل غبقة وكل رمضان وأنتم بخير.