تتمثل حضارة اي مجتمع في تقدمه زراعيا وتجاريا وفي توافر الوظائف المتخصصة، ووجود صور مدنية واضحة، كما تتمثل الحضارة غالبا في تقدم مجموعة عوامل اخرى كالمواصلات والانظمة الادارية والكتابية والنقدية والقضائية، والفنون الرفيعة والرياضيات والمعالم الجمالية كالنصب التذكارية، هذا ما ورد في احد المصادر، ولكني وجدت ان تعريف قاموس «التراث الاميركي»، الذي لفت الدكتور كامل النجار نظري إليه، اكثر دقة، حيث يعرّف الحضارة بأنها: حالة متقدمة من التطور العقلي والثقافي والمادي في مجموعة بشرية من علاماتها التقدم في مجالات الفن والعلوم وانتشار التدوين، بما في ذلك الكتابة، وظهور انظمة سياسية واجتماعية متقدمة.
ولو قمنا بتطبيق هذه التعريفات على بعض ما يطلق عليه «حضارات» لوجدنا ان عددا منها لا يستحق ذلك، فلا توجد حضارة هندوسية او بوذية او يهودية او اسلامية او مسيحية، بل توجد حضارات ترتبط بمناطق جغرافية محددة، وضمن شعب محدد، كالحضارات الفرعونية والبابلية والصينية والهندية وغيرها.
وبالتدقيق في تعريف قاموس التراث الاميركي American Heritage نجد ان التدوين هو من سمات الحضارة، وكمثال على ذلك كتاب Doomsday وهو كتاب مسح احصائي امر الملك «وليم الاول» في عام 1086 بتدوينه، لشكه في مستشاره المالي، لكي يتضمن حصرا لممتلكات رعيته من ارض وماشية ودواجن وغير ذلك، وتقدير قيمة لها لغرض فرض الضرائب العادلة عليها، وسبب تسميته بكتاب يوم الحساب او القيمة هو ان احكام الضرائب فيه نهائية وغير قابلة للاستئناف. ويعتبر المؤرخون هذا الكتاب الاول في تاريخ البشرية الذي يحدد من يملك ماذا، ويعتبر نواة نظام «حقوق الملكية».
كما توجد في كل الكنائس، شرقا وغربا، سجلات قيد يعود تاريخها لعمر ارشيف تلك الكنائس او اكثر حتى، وهي السجلات الخاصة بتوثيق عقود الزواج التي اجريت فيها، والتي يمكن العودة إليها بعد مئات السنين لمعرفة من تزوج، واسماء اقرباء كل طرف، وقد كانت هذه السجلات النواة التي بنى عليها الروائي ألكس هيلي قصته الشهيرة «الجذور»، حيث اصبح بإمكان احفاد المهاجرين الى اميركا العودة لمواطنهم الاصلية، سواء في اوروبا او افريقيا والبحث في سجلات الكنائس عما يتعلق بجذورهم، وهذا ما لا يمكن ان يحصل بين أغلبية مواطني الكويت مثلا، الذين هاجر اجدادهم من قرنين او اكثر الى الكويت من عدة مناطق، فأليكس هيلي لا يعيش بيننا، وعقود الزواج وحتى نصف قرن مضى لم تكن توجد ابدا، لاننا شعوب شفهية، والدليل ان اكثر كتبنا قدسية واحتراما لم يجر تدوينها الى بعد عقود عدة وبعضها بعد اكثر من 200 سنة كالصحاح الست، وغيرها الكثير.
كما توجد في انكلترا سجلات دقيقة لحالة الطقس ودرجات الحرارة يعود تاريخها لاكثر من 230 سنة، مع آلاف السجلات الاخرى الاكثر او الاقل قدما، والتي تحتوي على معلومات مهمة عن الطيور، انواعها وهجراتها والحشرات والنباتات والغلال والزهور بانواعها وحيوانات البيئة الاخرى وغير ذلك الكثير.
وعليه، فإن غياب التدوين لدى اي مجموعة بشرية يعني بصورة مباشرة غيابها عن الحضارة! ولا أعتقد ان البعض سيرضى بهذه النتيجة، بالرغم من ان غيابها ربما يكون في مصلحة صحتنا النفسية، لكي ننسى ما اقترفته ايدي الكثيرين منا من إجرام في حق بعضنا البعض طوال قرون عديدة.
أحمد الصراف