لا أتذكر، ولو على وجه التقريب، عدد المرات التي تلقيت فيها اتصالات أو التقيت فعلياً بنماذج من شباب القرى بعد كل مقال يطرح ظاهرة العنف والتخريب والاضطراب الأمني، غير أنها كثيرة، ومع كثرتها، لكنها بالنسبة لي، تجارب مفيدة خصوصاً بوجود شباب يدفعهم الاستعداد للتحدث والاستماع والنقاش وجهاً لوجه، وليس على شاكلة (اضرب واهرب)، أو (أرسل شتاماً وسباباً وتهديدات عبر البريد الإلكتروني في الخفاء)، أو (نظم حملة ضد هذا الكاتب العميل الخائن) في موقع إلكتروني، وادخل بعشرات الأسماء المستعارة المكررة، وبارك الله شبابنا المناضل.
وعلى أي حال، فإن المتتبع للبرامج الإعلامية المتنوعة إذاعياً وتلفزيونياً، وكذلك ما تنشره الصحافة المحلية في شأن ظاهرة العنف والتخريب والاعتداءات والحرق، والتصريحات التي تصدر من بعض النواب وبعض ممن يطلق على نفسه (ناشط سياسي)، والخطب الدينية ومشاركات المنتديات الإلكترونية، سيجد كماً هائلاً من المواقف التي تدين العنف والتسبب في حوادث الاضطراب الأمني، ولا حاجة لي لتكرار ما طرحته دائماً من أن كل الأفعال المنافية للقانون من حرق وتدمير ومواجهات وتعريض القرى خصوصاً، ومناطق البلاد وشوارعها عموماً، لحوادث العنف، هي مرفوضة شرعاً وعرفاً، لكن في المقابل، قلما نجد مبادرات منطقية تكشف رغبةً للبحث في الأسباب ومعالجة الدوافع، حتى مع إيماننا التام وإجماعنا على رفض أعمال العنف والعنف المضاد.
قبل أيام، وبعد مشاركتي يوم الخميس الماضي في برنامج (مرئي ومقروء) في تلفزيون البحرين، تناولت مع الزميلة وفاء العم مقدمة البرنامج جزئيةً تتعلق باستمرار أعمال العنف وانجراف فئات من الصغار والناشئة والمراهقين والشباب في أعمال منافية للقانون، وقلت حينها إن هناك ثلاث فئات من الشباب، الأولى هي الفئة التي تؤمن بحقوقها الدستورية في المطالبة بأسلوب سلمي، وتشارك في الفعاليات المرخصة ولها منهجها المعتدل في طرح المطالب والمشاركة في الحياة العامة، والثانية هي فئة الشباب الذين ليس لديهم من هدف سوى التخريب والتحريق حتى في عمق ممرات وطرقات القرية، أما الفئة الثالثة، وهي الأخطر، فهي الفئة التي تريد أن تشعل الحرائق تحت مسميات وشعارات أكبر منها بكثير، ولا تدرك أصلاً معناها، وربما يدفعها في ذلك رغبة في الانتقام من المجتمع.
والمفارقة غير المتوقعة، هي أن مجموعة من شباب القرى طلبوا الالتقاء بي وتم ذلك فعلاً عصر يوم الجمعة، فبادرني أحد الشباب قائلاً: «بو محمد، شباب القرى لا يخططون لانتحار جماعي، لكن لدينا مطالب والدولة لا تستجيب»، فأجبته ومن معه من الشباب أنني لم أنتقد يوماً أية حركة مطلبية شبابية سلمية يحترمها الجميع، لكنني، حالي حال الكثير من المواطنين الذين رفضوا العنف لمجرد العنف والتخريب لمجرد التخريب في القرى، وخصوصاً في الأوقات الآمنة وفي إجازة نهاية الأسبوع، لا أقبل بتعريض حياة الناس وممتلكاتهم والممتلكات العامة للتخريب تحت أي شعار، فكان إجماع الشباب هو: «ما هو الحل والملفات العالقة من تمييز وتجنيس وقمع وحرمان من الحقوق وتشكيك في الوطنية والحملات المغرضة مستمرة؟»، ولم يكن لديّ جواب أكثر من أن كل تلك الملفات، لا يتحمل وزرها أهالي القرى ولا شأن لهم في أسلوبكم في التعامل معها، أما ما هو الحل، فلا أعتقد بأنكم لا تستطيعون التعبير عن مواقفكم وآرائكم في مسيرات واعتصامات وندوات وملتقيات سلمية، وهي قائمة كما نلاحظ وآخرها فعالية (رجعوها).
هناك نقطة أخرى نتمنى أن تتحقق وتنجح، وهي حديثي مع مسئول أمني كبير أبدى ارتياحاً من فكرة الاقتراب من الشباب والاستماع لهم والبحث في مشاكلهم والاستعانة بالمتخصصين الاجتماعيين للمشاركة في المعالجة بأسلوب يحفظ حقوق الوطن وحقوق المواطن والمقيم، تزامن ذلك مع برنامج (أمن) ظهر يوم الخميس والذي تحدث فيه كل من محافظ الشمالية جعفر بن رجب، والنقيب أنس الشايجي ضابط من الشئون القانونية إلى جانب قاضي محكمة الاستئناف العليا الشرعية الدائرة الجعفرية الشيخ محسن العصفور، وهو برنامج تناول الظاهرة من مختلف جوانبها بمشاركة المواطنين بكل حرية وجودة واعتدال في الطرح.
المبادرات الصادقة يمكن أن تنجح بعيداً عن مظاهر الحرق والتخريب والعنف والقمع وتشديد الإجراءات في القرى واستخدام الشوزن والمولوتوف والاعتداءات على المدارس والممتلكات وتجاوز أعراف حقوق الإنسان، وهي تتطلب مواقف متناغمة من جانب الرموز السياسية وقادة الرأي، إضافةً إلى شراكة مجتمعية فاعلة من جانب الدولة بمختلف مؤسساتها، ولاشك في أننا حين ندين كل الممارسات الخارجة عن القانون، ونرفض أعمال العنف والتخريب، نأمل في خطوات حقيقية للاقتراب من واقع المواطنين المعيشي، ونأمل أن تنظر الدولة إلى قطاع الشباب واحتياجاته وهمومه بصورة حقيقية أيضاً لا تنحصر فقط في التصريحات والخطط المقروءة على صفحات الجرائد فقط. لن يخطط شباب القرى لانتحار جماعي أبداً، طالما سيكون صدر الوطن متسعاً لهم ولغيرهم.