العلم بحر. راقت لي سيارة مرت أمامي في الشارع فقررت أن أشتري شقيقتها، بحيث تكون أكبر منها سناً، وأقدم منها في معترك الحياة، وبشرط أن تكون رخيصة غير بخيصة. فنهاني الأصدقاء عنها. ليش؟ لأنها تسير بنظام "الدفع الأمامي". ولأنني أسمع عن هذا النظام البائد ولا أعرفه عن قرب، سألت: "ما الفرق؟"، فأجابوا: "الدفع الرباعي يعني أن ما يدفع السيارة للتحرك هو العجلات الأربع، وهو ما يعطيها قوة أكبر، ويحافظ عليها، أما الدفع الأمامي فيعني أن ما يدفع السيارة هو العجلتان الأماميتان فقط، وتتبعهما الخلفيتان على غير هدى، فالخلفيتان مثل زوج الست"، قلت: "يعني بالمصطلح السياسي نستطيع أن نقول عن نواب الحكومة إنهم عجلات خلفية والدفع أمامي؟"، قالوا: "فتح الله عليك يا مولانا"، قلت: "لنبحث إذاً عن نظام أخو شمة، نظام الدفع الرباعي كحال سيارتي السابقة، وكما قال الفارس ابن رشيد (عيبٍ طمان الرأس عقب ارتفاعه)"، فبحثنا وأعيانا البحث، فتهكم أحد الأصدقاء: "نصحناك أن تغيّر قلمك "الجاف" بقلم "سائل" يتشكل بحسب الوعاء الموجود فيه، فتهز النخلة فتساقط عليك رطباً جنياً، فأبيت" يقصد أن أصحاب الأقلام السائلة استفادوا من بعض الشركات والتجار والسياسيين. قلت: "وجه الفقر ما يعرف الغناة"، كما في المثل.
حينها، تذكرت سيرة كليوباترا (أكثر امرأة استهلكت عطوراً على مر التاريخ) حين كانت ترش أشرعة سفنها بالعطور المعبأة في براميل كي تخفف نتانة رائحة البحر، فيتسابق الخدم والحشم لتطويقها، هذا يرفع طرف فستانها، وذاك يقبل حذاءها، وذيّاك أصبح كالمظلة ووقف بينها وبين الشمس، ووو، كل هذا للظفر بما تبقى في البراميل من عطور، ومن يظفر ببرميل يحلّق في فضاء المال والأعمال، إذ إن برميل عطر من عطورات كليوباترا يعادل بلغتنا اليوم مشروع بي أو تي.
مساء اليوم التالي توجهت بمفردي إلى مكتب سيارات آخر، فرحّب بي الموظف بشدة (هذه المرة كان كويتياً لا مصرياً كبائع الأمس) وراح يناقشني في مقالاتي، فاستبشرت خيراً، لكن الأمور التبست عليه، وظن أنني أبحث عن "ما غلا ثمنه" من السيارات، بحكم أنني كاتب، فتركته يهذي ويحدثني عن أنواع "البورش"، وتحمس فاستصحبني، على رأي نجيب محفوظ، لرؤيتها على الطبيعة، وراح يحدثني عن الفروقات بينها، فهذه "بانوراما" وهذه "سنسر" وهذه "نافيغيشن" وهذه "خنصر"، ولم يكن بينها فرق واضح، وكلها بألوان غامقة إلا واحدة كانت بيضاء من غير سوء، وتبسمت بعد أن تذكرت زيارتي لكهف "أهل الكهف" مع أبنائي، عندما توقفت بجانبنا حافلات ملأى بالسياح اليابانيين، فذهل ابني وصرخ بكل ما أوتي من تناحة: "كلهم أخوان؟"، فأشرت إلى السائق: "هذا ليس أخاهم، لو خليت خربت".
وأسهب البائع في الشرح فقاطعته بصوت مبحوح مجروح وأنا أنظر إلى سيارة أعرفها وتعرفني: "شوف لي سيارة كهذه يصل سعرها بعد تقسيطها إلى ستة آلاف دينار، حفظك الله"، فرمقني بنظرة تختلف عن نظرة الاحترام في الشكل والمضمون، فرمقته بمثلها، فرمقني فرمقته، وأنا أبو سلمان، فاستأذن بجلافة واستدعى لي العامل الآسيوي الذي جلب لي قبل قليل فنجان الشاي ليشرح لي مواصفات السيارة…
فخرجت غاضباً، وهاتفت صاحبي: "خلاص، سأكتب بالقلم السائل، وسأهاجم النائب مسلم البراك منذ الصباح الباكر، وسيكون عنوان مقالتي القادمة (غير السّوباح ما نبي)".
***
يبدو أنني سأشوي البصل الإيراني على جفون الكاتب الفضائي، وسيكون للبصل نكهة الكمّون والكاري. بالهناء والشفاء. وقد أبيع التذاكر لكل من أراد الضحك عليه في الجمعيات التعاونية.
***
الحرية لسجين الرأي خالد سند الفضالة.