محمد الوشيحي

حسين الوشيحي… الدائري السابع

سامح الله عمنا الفلكي الكبير صالح العجيري، الذي أرعبنا بتصريح خصّ به الزميل فهد التركي ونشرته هذه الجريدة: "البوارح خلال أيام، والصيف هذه السنة سيكون حاراً جافاً مغبراً!"، والحمد لله أنه لم يقل سامّاً. سامحك الله يا عم، ألا يكفينا رؤية كل هذه الوجوه الأسمنتية لتزف إلينا بشرى كهذه.

لكنني رغم رعب التصريح "ضحكت حتى أذني" كما يقول الأشقاء التوانسة، بعد قراءته، فقد تذكرت صيف 2008، عندما اصطحبت أسرتي إلى أقصى شمال شرق تركيا، واستأجرت كوخاً بدائياً في منطقة بشوشة، من شيخ طاعن في السن، شخبط الزمن على وجهه ورقبته، لكنه في كامل لياقته ومرحه وحبه للحياة.

كنا نجلس في حديقة الكوخ، فيمرّ من تحت أقدامنا جدول ماء يتمايل كتمايل الغندورة المغرورة، صافٍ كخدّها، طويلٌ كعنقها، هادئ كابتسامتها، شقي كشفاهها، نحيف كخصرها، وتحاصرنا سلسلة جبال تقف وقفةَ إمبراطورةٍ شامخة متشحة بالخَضار، يتزحلق على متنها شلالٌ طفلٌ تركته أمه يمرح، وأوصت الأشجار الباسقة عليه، وفوقنا نسمة لم تحسم قرارها بعد، هل تبرد أم تعتدل، وأطفالي حولي، بعض الأحيان، وفوق ظهري وأكتافي أغلب الأحيان. منظر يشجعك على كتابة سبع مقالات سمان في يوم واحد، ويدفعك ولو كنت أعجمياً إلى نظم قصيدة تغيظ زهير بن أبي سلمى، ويحرّضك على تأليف مقطوعة موسيقية يتراقص على أنغامها العشاق متعانقين، ويشجعك على رسم لوحة فاخرة، بل ويشجعني أنا على الرسم، وأنا الذي في طفولتي أغضبت مدرس الرسم بعدما طلب من التلاميذ رسم لوحة واختيار عنوان لها، فاجتهدت ورسمت "بطة" و"أرنباً" و"أسداً" فوق ظهر "بقرة" تطير، من باب "كل الأحبة اتجمّعوا"، فذهل المدرس، لا لأنني حولت البقرة إلى "إير باص" فقط، بل لأنني رسمت البطة تأكل جزرة، والأرنب تأكل تفاحة، والأسد يلحس جبنة. سوء تفاهم. وكان عنوان اللوحة "حديقة الحيوان الطويلة".

أقول، في ظل أجواء الكوخ هذه، وبعد وجبة غداء نهري فخيم "حبسته" بكوب من الشاي "العصملّي"، بعثت برسالة هاتفية خبيثة إلى أخي غير الشقيق، حسين، الذي يكبرني بثمانية أشهر مازلت أدفع ثمنها: "الجدول يتسلل من بين أقدامي، والشلال يتراقص أمامي، والجبال تظللني، والنسمة تداعبني، والشمس تلعب معي استغماية، والعصافير في مسابقة سوبر ستار لاختيار أفضلها صوتاً. ربنا ولك الحمد… أخوك محمد الوشيحي من كوخ مزرعة في الحدود الشمالية الشرقية لتركيا"، وكنا في أغسطس، فجاءتني رسالته بعد دقائق: "سيارتي الفورد القديمة تحت أقدامي، تعطّل مكيفها، فتلثمت وفتحت زجاجها، والشمس ملتصقة بمخّي، والغبار يتراقص ويحذفني بالصخر على وجهي، والسموم تتراقص وتلفحني، وفي طريقي إلى الصناعية، والنفسية تتراقص تحت الصفر، والعبرة تخنقني، وإِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ… أخوك حسين الوشيحي، من الدائري السابع، ما بين منطقة (الظهر) ومقبرة صبحان".

* * *

توقُّفْ الزميل النقي سعد العجمي عن الكتابة جعلني أهاتفه وأتلفظ عليه بكلمات يمنعها قانون المطبوعات والنشر، ولم أقتنع بمبرراته رغم محاولته "إكناعي"… يا أبا محمد، اذهب إلى حيث كوخي ذاك ومزرعتي تلك وستعود بحال مختلفة، وقد تتراجع عن قرارك الموجع… سحقاً لك.

آخر مقالات الكاتب:

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *