سقى الله أيام الصبا. كنا في المرحلة المتوسطة عندما سمعنا للمرة الأولى عن شاعر في مدرستنا نعرف لقبه ولا نعرف اسمه، وغطت سحابة شهرته المنطقة كلها، وكان يسبقني بثلاث سنوات دراسية، وكنا نتداول أشعاره في قصاصات يمدني بها صديقه منصور الوشيحي، شقيقي الأكبر، ومني تتسرب القصاصة إلى بقية الأصدقاء.
كبر الصبية والتحقوا بالمدرسة الثانوية، وازدادت متابعتهم لما يكتبه شاعر مدرستهم ومنطقتهم "وضّاح"، وتأثرت به كثيراً، فكتبت أولى قصائدي بالفصحى وأنا في الرابعة عشرة، في الصف الأول الثانوي، وكانت قصيدة فاسقة ماجنة على أشد ما يكون الفسق والمجون، وعرضتها على مدرس اللغة العربية، فقرأها والتفت نحوي: "قصيدتك يا ابني فيها شعر لكنها تنقض الوضوء، وكل من يقرأها يجب أن يستحم قبل أن يصلي"، ومازالت ذاكرتي تحتفظ ببيتين منها لا يصلحان لمن هم أقل من ثمانين سنة…
ورفعت الأيام طرف ثوبها وراحت تعدو وتعدو وتعدو، وعدونا معها، فلا خيار آخر أمامنا، فالتقينا في الطريق شاعراً عراقياً مبهراً اسمه أحمد مطر، احتلت قصائده مساحة ليست بالصغيرة من أذهاننا، وحفظناها وتبادلنا الانبهار بها، وأحمد مطر واحد من أشهر كارهي أميركا على ظهر هذا الكوكب… وفي الأيام تلك، حُل البرلمان عام 86، وجاءت الحكومة بالمجلس المسخ "المجلس الوطني" تسحبه من قفاه وتجلسه في صدر الديوان، فغضب الناس، وقامت "دواوين الاثنين" المعارضة عام 89، وعادت قصائد "وضاح" للساحة من جديد، وتم تداول اسمه كشاعر المعارضة…
وجاء الغزو العراقي، فقرأنا قصيدة ولا أعظم صاغها أحمد مطر بعنوان "العشاء الأخير لصاحب الجلالة إبليس الأول"، مقفاة موزونة، يقول في بعض أبياتها وهو يصف خطة أميركا في تدبير الغزو:
بغضي لأمريكا لو الأكوان ضمت بعضه لانهارت الأكوانُ
هي جذر دوح الموبقات وكل ما في الأرض من شرٍّ هو الأغصانُ
حبكت فصول المسرحية حبكةً يعيا بها المتمرس الفنانُ
هذا يكر وذا يفر وذا بهذا يستجير ويبدأ الغليانُ
حتى إذا انقشع الدخان مضى لنا جرحٌ وحلّ محله سرطانُ
وكانت نحو خمسين بيتاً من الشعر أو ستين، وكنت أحفظها كاملة، تسرّب بعض أبياتها من ذاكرتي خلسة أثناء نومي، واحتفظت بأغلبيتها إلى اليوم.
واستمرت الأيام تعدو في مضمارها، وعدوتُ معها، إلى أن تزاملت مع شاعريّ المحببين "وضّاح" وأحمد مطر، بل وشاركتهما الكتابة في الصحيفة نفسها، بل في الصفحة نفسها، فيا لهذه الأيام…
على أن أحداً لا يكره أميركا أكثر من أحمد مطر إلا النائب السابق والمنظّر السياسي الثقيل د. عبدالله النفيسي، الذي توقّع أن تختفي الكويت والإمارات والبحرين وقطر من الخارطة، فلا بقاء للدويلات الصغيرة، واقترحَ النفيسي أن تتحد دول الخليج، وكنت سأؤيده لو أنه اقترح ضم لبنان معنا، وسأؤيده لو أنه طالب بإلغاء مراكز الحدود أولاً، أو توحيد العملة، أو على الأقل توحيد الملابس قبل الاتحاد، بشرط أن لا نرتدي "الوزار" كما يفعل أهلنا في الإمارات وعمان، ولا نلبس الغترة التي تشبه المظلة والعقال أبو دندوشة كما يفعل أهلنا في قطر، ولا نضيّق الدشاديش كما يفعل أهلنا في السعودية، ولا نرتدي الدشداشة بلا غترة كما يفعل أهلنا في البحرين… لذا، أرى أن نمشي خلف رئيس برلماننا ونرتدي البذلة بلا ربطة عنق، كما يفعل أهلنا في إيران.