محمد الوشيحي

يا ارنبتي الارنوبة


آسف، مُنعت مقالة الأحد الماضي من النشر، فقد رآها ناشر هذه الصحيفة، النائب السابق الزميل محمد الصقر مقالة تجريحية، ورأيتها أنا توضيحية، وأصر كل منا على رأيه، وثبت على موقفه، فأغلقنا الشارع العام، وتوقفت حركة المرور، فهو يابس الدماغ، وأنا ناشف الدماغ، لذا فعل كلٌّ منا ما يمليه عليه رأسه، فكتبت أنا المقالة، ومنع هو نشرها. وعند النقاش عرض عليّ فكرة: «هاجمني أنا وسأحتمل وسأنشر»، فأجبته: «الحدود الدنيا من الأدب والذوق تمنع، ثم إن القنابل يجب ألا تثور في مخازنها».

ولو كنت أعلم أن إيقاف مقالة أو مقالتين سيتبعه رد فعل كهذا، يرضي الغرور الكامن في صدري، وينشر الحبور في أرجائي، لفعلتُ منذ الأزمنة السحيقة، بعدما وصلتُ إلى مرحلة يتهمني فيها أصدقاء السوء بالبلادة الشعورية، فلا مادح يفرحني ولا قادح يجرحني. وهنا لا يسعني إلا أن أقول ما قاله الشيخ المواطن علي الجابر الأحمد الصباح في مثل هذه المواقف الصعبة، في مطلع قصيدته التائية العظيمة: «يا أرنبتي الأرنوبة يا حلوة يا حبوبة»، وهي قصيدة تدخل من باب الرثاء وتخرج من باب الهجاء إلى أن تستقر في باب «الحداء»، حداء الحرب.

وكانت الحروب في السابق تعتمد على شعر الحداء لبث الحماسة في روح الفرسان، وكان سيف بن ذي يزن، الملك اليماني الشهير، قبل بدء كل معركة، يستعرض جيشه على ظهر حصانه، ثم يصرخ بأعلى صوته وهو يشير بسيفه إلى أعدائه: «يا أرنبتي الأرنوبة»، فيرد العساكر بصوت واحد يهز الجبال والسهول والوديان: «يا حلوة يا حبوبة»، ويكرّون على عدوهم كرّ الأسود الجائعة، فتتساقط الجثث وتحوم الغربان ويتعالى صوت الثكالى.

الشعر قاتل، واسألوا المرحوم أبا الطيب المتنبي الذي عَرَضَ له كمين أثناء مسيره من شيراز إلى بغداد، هو وخادمه وابنه، فأمرهما بالهرب، فسأله خادمه العجوز بنذالة: ألست القائل «الخيل والليل والبيداء تعرفني، والسيف والرمح والقرطاس والقلم؟»، فأجابه المتنبي: «قتلتنا قتلك الله»، أي «رحنا فيها»، وكرّ على أفراد الكمين، فقطّعوه بسكّين المطبخ.

وكان أحد الصعاليك العرب، أظنه الأخ تأبط شرّاً – صاحب قصيدة «لعمر أبينا ما نزلنا بعامر» – لا يكر على خصومه إلا بعد أن يتغنى بمعشوقتيه، الخمرة ومحبوبته الغانية السمراء، قاتله الله، فيمتدح جودة الأولى وأرداف الثانية. وكانت عورته تظهر في الحروب، إذ لا يعترف بـ «الأندر وير»، الملابس الداخلية، لأنه صعلوك سفري، سيليكو. وكان زعيم قبائل يام، الفارس الخالد راكان بن حثلين، قبل المعركة يتغزل شعراً -فقط- بمحبوبته، ذات النحر البراق، وذات الشعر المعثكل، فتهتز الصفوف وتغلي دماء الرجال في عروقهم. والفارس الشيخ المواطن علي الجابر يدرك ما للشعر من أثر، لذا نظَمَ قصيدتيه الخالدتين بعد تحرير الكويت: «قطوتي يا قطوتي»، و»قم تقمقم ريحتك فطيس»، قبل أن يلحقهما ويعززهما بمقالاته التي كتبها بماء الذهب واللهب.

والألسنة عناوين، وكلام الرجل يرفع البطانية عن قلبه ويكشف معدنه، ومقالات المواطن الشيخ تدل على أنه رجل دولة بكل ما تحمله الكلمة على ظهرها، وأن مستقبل البلد بخير وبصحة وبعافية. وكان سعادة المواطن محافظاً للجهراء قبل أن يتولى محافظة العاصمة، وقد يتولى محافظة الفروانية عما قريب. وعلى أكتاف العظماء من أمثاله تتكئ الدول، وتنهض الشعوب، وتستقر الأنفس الهائجة. فلله دره. 

آخر مقالات الكاتب:

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *