معظم المسؤولين ذوي الشخصيات «الوازنة» – على رأي إخواننا المغاربة – الذين تشاهدونهم في البلد غلابة غلب ما يعلمه إلا الله سبحانه، يغرقون في شبر ماء، إلا في كيفية حلب الدولة من خلال اللجان والمهمات الرسمية. وليت أحد النواب يطلب من ديوان الخدمة المدنية تزويده بتكلفة اجتماعات اللجان الحكومية والمهمات الرسمية، ثم يبيّن نسبتها من ميزانية كل وزارة، ويقارنها مع ميزانية التدريب والتطوير في الوزارة تلك، ثم يعرضها على المارة وعابري السبيل من المواطنين، فالناس هنا يعرفون منبع النفط لكنهم يجهلون مصبّه.
وأمس، تابعت حديث الحاضر الغائب النائب السابق وليد الجري، وكان من ضمن طلباته أن تضع الحكومة استراتيجيتها ولا تكتفي بالخطة التنموية، وقطعَ الجري، الذي هو فعلاً «جريء» كما كان جده الأكبر، بأننا لو سألنا الوزراء عن الاستراتيجية لتلقينا ست عشرة إجابة، بعدد الوزراء، لا علاقة لإجابة هذا الوزير بإجابة ذاك. وأنا أقول يا أبا خالد، إذا أردت أن تطاع فاطلب المستطاع، وطلبك «الاستراتيجي» لا يُطاع ولا يطاق.
وسأطرح فكرة أخرى أسهل من فكرة الجري الاستراتيجية، وهي فكرة مجربة، جربَتها الحكومة ونجحت إلى حد ما… فبعد أن حصلتُ على شهادة الثانوية العامة تقدمت إلى «الطيران المدني» لدراسة الطيران، وكنت أمنّي النفس بالصياعة في كوكب الأرض، فأتناول الغداء في بروكسيل والعشاء في نيودلهي، وأرتدي اليوم جلد نمر، وغداً «بنجابي»، وبعد غد تنورة الأسكتلنديين، هكذا كنت أفكر. (تذكرت حادثة لشاب سعودي، كتبها في مدوّنته، يقول إن مدرسته أقامت حفلة، وطلبت من التلاميذ أن يرتدوا ملابس الشعوب، وكان نصيبي اللباس الأسكتلندي، التنورة. يقول استغرق الأمر مني نحو ثلاثة أيام لتجهيز التنورة، وجاء يوم الاحتفال، فارتديتها وخرجت سعيداً بها إلى الوالد الذي كان يجلس في «الحوش» مع مجموعة من أصدقائه كبار السن كي أضحكهم وأحدّثهم عن الشعب الأسكتلندي، لكن شيئاً ما ارتطم بجبهتي وأحرقني واسودّت الدنيا في عيني، وفي المستشفى تبيّن أن الوالد حفظه الله رماني بـ»الدلّة» المليئة بالقهوة بعد أن ظن أنني تشبهت بالنساء! وفوق كل هذا لم يزرني طوال مكوثي في المستشفى، إلى أن شرح له المدير والمدرّسون حقيقة الأمر، فعفا عني بلا نفس).
أعود إلى موضوعي، عندما تقدمت إلى «الطيران» فاستقبلتني اللجنة وطرحت عليّ أسئلة «اختبار الذكاء»، منها أن قام أحدهم بإعطائي قلماً قائلاً: «هذا قلم أزرق، ونبيه (أي نريده) يكتب أحمر»، فكتبت كلمة «أحمر»، وحصلت على الدرجة، لا لذكائي بل لأن من سبقوني تعرضوا لمثل هذا السؤال، فنقلوه إلينا.
وكل ما نريده الآن من المسؤولين، قبل تعيينهم، أن يقرأوا هذه المقالة، ثم نمد لهم قلماً أزرق، ونطلب منهم أن يكتبوا «أحمر»… وأدي دقني.