هي المرة الأولى التي تسمع فيها كلمة غزل عابرة من عابر، قالها بلهجة جائعة: "يسلم لي الخصر وتوابعه". كانت في السادسة عشرة، وفي طريقها إلى مدرستها. أربكها الغزل، ولعثم تفكيرها، فسرقت نظرة سريعة إلى صدرها المتفرعن رغم صغره، وإلى خصرها وما حمل، كأنما لتتأكد من أن أغصانها تمايلت فعلاً، ثم رفعت عينيها بسرعة وأظهرت، كاذبةً، عدمَ مبالاتها.
في غرفتها، رمت حقيبتها على سريرها، ووقفت أمام مرآتها، تفقدت أنوثتها، بتركيز، قبل أن تتنهد رضىً وزهواً، ثم ألقت بنفسها على السرير وأغمضت عينيها، لكنها نسيت أن تغمض أحلامها وسعادتها بنضج تفاحها.
طال الليل هذه المرة، متى يأتي الصباح فتذهب إلى مدرستها؟ أو الأصدق: متى يأتي الصباح فتستمع إلى كلمة غزل جديدة ترضي أنوثتها المتأهبة… والغواني يغرهن الثناء…
هذا الصباح، لم يكن العابر وحيداً، كان برفقته ثلاثة، كلهم تباروا في إلقاء كلمات الغزل أمامها. العابر يتغزل وهو يضع يده على قلبه مدعياً أنه شهيدها، ورفيقه يضع أصبعه على خده ويبتسم بنعومة، كما يفعل بعض المطربين الجدد عند تصوير ألبوماتهم، والثالث مبتسماً يستند إلى سيارة فارهة، كأنما ليخبرها أنه مالكها، أو كأنما يفاخر بجودة الصناعة الألمانية وبثراء والديه… وعادت فألقت بحقيبتها وهي تلهث، ووقفت أمام صديقتها المرآة، لتؤكد لها صدق انتهاء مرحلة الطفولة، وأن ما تساقط عليها من غزل لم يكن مبالغة.
واستنسخت الأيام نفسها، واستنسخ الغزل كلماته الباهتة التي تشبه كلمات أغاني تامر حسني، لا ملامح لها ولا ملح… وتكاثر الشبان العابرون في طريقها إلى المدرسة ومنها، وتكدست أمام أقدامها كلمات الغزل المكرورة المتطابقة كوجوه الصينيين: "يا عمري"، "يا روحي"، "يا حياتي"…
لم يعد هناك من جديد، أصبح الغزل جزءاً من روتينها اليومي: الاستيقاظ، الإفطار، الذهاب إلى المدرسة، كلمات الغزل التي يطلقها شبّان أعدادهم تتزايد يوماً عن آخر، الجلوس أمام المعلمة، العودة إلى البيت، الغزل مرة أخرى، استذكار الدروس، فالنوم… لا جديد.
قلبها لم يخفق لهؤلاء، وإن أفرحها غزلهم فترة، وعقلها الطري لم يفسر لها بعد أن الحب لا تصفه كلمات باهتة مكرورة، ولا ينتظر بين مجموعة من الناس. الحب متفرد، متمرد، في كلماته، في شرارته الأولى، في توقيته، في طريقته، في قسوته، في لذته… متفرد.
وصدفة، ذات مساء في منتصف مايو، التقته…
لم يغازلها بـ"يا عمري ويا حياتي"، ولم يستند إلى سيارة فارهة، ولم يضع أصبعه على خده مستعرضاً ابتسامة ناعمة، أبداً، فقط أحسّ بارتباك عينيها وهي تنظر إليه فابتسم لها، ومضى… فارتجّت الأرض من تحتها، وتسارعت نبضات قلبها، لكأنها ركضت أميالاً وأميالاً، وتسمّرت مكانها، تسمّر كل ما فيها إلا قلبها متسارع النبضات، وعينيها اللتين راحتا تتابعانه حتى اختفى.
عادت إلى صديقتها، مرآتها، وراحت تبحث عندها عن أجوبة لأسئلتها المتناثرة: "هل كان يبتسم لي شفقة أم إعجاباً أم هي ابتسامة عابرة لتلاقي أعيننا؟"، وأكملت لاهثة: "تُرى، هل يبتسم لكل فتاة تلتقيها عيناه، أم أنه خصني وحدي بهذه الابتسامة؟"، وتلهث: "لمَ خانتني ثقتي بنفسي أمامه؟ وما المختلف فيه عن الآخرين؟"…
وباتت هي التي تنتظر هذه المرة، تنتظره مرتبكة، كل مساء، ولا يأتي… فتنتظره، فلا يأتي.
أعياها البحث عنه، ولم تيأس، إلى أن توصلت إلى خيط يقودها إليه، بريده الإلكتروني، فكتبت لاهثة: "الآخرون يعرفون عنك كل شيء، وحدي أنا لم أكن أعرفك"، وفي سطر آخر بثّت: "هل تتذكرني، أنا التي التقيتك صدفة في المكان الفلاني فتبسّمت لي؟ هل تذكرتني؟"، كانت لفرط ارتباكها تكتب وتتحدث بصوت عالٍ: "لماذا لم تكن مثل الآخرين، فتبتسم لي ابتسامة ناعمة وأنت تضع أصبعك على خدك؟ لمَ لم تستند إلى سيارة فارهة تتباهى بها أمامي؟ لمَ لم تدّعي أنك شهيدي وتنتظرني كل صباح؟"، وتشكو إليه: "حدة عينيك أربكتني، شموخك غير المتكلف هزّني…"، وشرحت له كل تفاصيل أيامها السابقة، ثم ختمت رسالتها الطويلة: "أتعبتني".
وجاءها الرد هادئاً، قصيراً، حزيناً، مجزأً: "أتذكرك جيداً. مثلك لا يُنسى… شعرت بكِ لحظتذاك… فراشة تقترب من النار… أخشى عليكِ".
فكتبت وهي تضغط على الحروف بأصابعها، هذه المرة باختصار وإصرار: "لن أبتعد".
فكتب: "فراشة".
وخصصت مساءاتها في انتظار رسائله… وخصص هو مساءاته في البحث عن طريقة تبعدها عن ناره ولا تجرح أنوثتها الغضة…
***
الحرية للزميل محمد عبد القادر الجاسم.