محمد الوشيحي

كي لا ترتبك الامعاء

عذراً، غابت مقالة الأحد الماضي والسبب ضيق الوقت. وليس أسوأ من الكتابة بعين والعين الأخرى على الساعة. والناس لا تعذر، ولن تقبل منك إلا وجبة شهية مشبعة. وقبل فترة، أثناء لعب ابني سعود – الذي لم يكمل عامه الثالث، لكنه يحاول، وقد ينجح، وقد لا ينجح – سقط من أعلى الدرج على الأرض مباشرة، يبدو أنه كان مستعجلاً فاختصر المسافة، وصدم الأرض بجبهته الشاسعة المترامية الأطراف، فأحدث دوياً، وتورّمت الأجزاء الشمالية الغربية من جبهته، وازداد طول رأسه، وزيادة الخير خيرين، ويبدو أنها «حوبة» أطفال الجيران الذين كان يتعامل معهم بنظام «الخصخصة»، فكلما راق له شيء في يد أحدهم خصخصهُ لنفسه… وكنا في ساعة العصرونية، كما يقول المغاربة، وهو وقت الكتابة، عندما تعالت الصرخات، فجريت وجاريت، وفتحت ساقيّ الطويلتين على مصراعيهما، وقطعت مسافة الدرج هبوطاً في أجزاء من اللمحة، وإذا به فاغراً فاه، يبحث عن نَفَسٍ مفقود، فحملته على كتفي، واتجهت به في «زفة» ونواح إلى المستشفى، وبعد أشعة رأس وعلاج لثة وإعادة إعمار الحنك، ووو، ناظرت ساعتي فإذا نحن ما بين المغرب والعشاء، فتركت سعود مع والدته وعدت وكتبت المقالة. فالكاتب مثل مضيفة الطائرة، عليه أن يخرج إلى القراء بكامل زينته، فجبهة ابنه تعنيه هو وحده، لا علاقة للمسافرين بها.

ويوم الأحد، أقصد يوم السبت، وقت كتابة المقالة، وصلت متأخراً ألهث، وجلست لأكتب وعيني على الساعة، فخشيت أن أقدم وجبة لم تأخذ النار حقها منها، فيقرأها الناس «نيّة» غير ناضجة، رائحتها زكية، وطعمها مميت، فتتلبّك أمعاؤهم وترتبك، ويتزاحمون على عيادة الطوارئ، فهاتفت الجريدة واعتذرت.

وحكاية الطبخ ذكرتني بما حدث في مخيّمنا، وكنا مجموعة من عباد الله الصالحين، وبعد أن نصبنا خيامنا، وزعنا أوراق الكوتشينة، على أن يتولى الخاسر مسؤولية الطبخ، إذ تمنع القوانين اصطحاب الخدم، وكالعادة كنت أنا الخاسر، فتعالت ضحكاتهم فرحين، فحذرتهم من عاقبة الأمر، استناداً إلى تجاربهم معي، لكنهم لم يأبهوا، فطلبت أن «يوقّع» كلّ منهم على ورقة تخلي مسؤوليتي فلا تطالبني أمهاتهم بالدية، فكركروا شماتة، فتوكلت على الله وطبخت. وكان من بين المجموعة صديق تسلل خلسة من فصيلة الغوريلا إلى فصيلة الإنسان، في غفلة من العم داروين، وأشهد أنه لم يترعرع على يد فليبينية، وأشهد أن أصابع يديه لو كمش بها رقبة حاخام يهودي لنطق الحاخام بالشهادتين فوراً بأعلى صوته، ولصلّى التراويح الساعة أربع العصر. وكان صاحبنا ضحوكاً كركاراً، وإذا ضحك ضرب الجالس إلى جواره على فخذه، فتتهشم وتنخلع صابونة ركبته.

وبين كل لحظة وضحاها يدخل الغوريلا خيمة الطبخ ليتفقد الأحوال، ولشدة جوعه راح يتغزل برائحة الطعام تارة، ويتهكم عليّ تارة: «ودلوقتي نحط معلقة من جوز الهند، وطماطمايتين، ونصف كوب من النشادر، وخمطة طحين مغشوش، وحيبلع جوزك بالهناء والشفاء، هاهاها»، وأنا أتمتم: «الوعد قدام يا بو طماطمايتين». وحانت ساعة الجد، وانتهت الطبخة، فقدمتها إليهم، وكان لونها أخضر، وكان لون ليلتنا أسود، وتوقفت الضحكات، وخيّم الصمت وساد الحزن، وعبس أبو طماطمايتين واكفهرّ، ثم تحامل على نفسه وراح يحجل كما تحجل الغوريلا إلى الخلاء، يده على بطنه، وظهره محنيّ كما كف طبّال اعتاد ضرب حافة الطار.

وهذا ما خشيت تكراره في مقالة الأحد.

***

تعازينا للأستاذ الكبير أحمد الديين لوفاة والدته، أسكنها الله فسيح جناته، وألهم ذويها الصبر والسلوان.

***

الحرية لسجين الرأي محمد عبد القادر الجاسم. 

حسن العيسى

أين أنتم؟


أكاد أردد مقولة الدكتور عبدالله النفيسي أثناء احتجازه أيام دواوين الاثنين حين نسيت قضيته ولم يزره أحد في معتقله، وقال: "أنا غسلت إيدي من الشعب"، فهل أقول مثله اليوم ولست معتقلاً مثلما كان النفيسي، لكنني مرهون بالقلق على حرية الضمير وحق الكلمة وأنا أشاهد وألمس باليد العارية اللامبالاة عند معظم ما يسمى "مؤسسات المجتمع المدني" في مأساة اعتقال الزميل محمد الجاسم…! بيان واحد يتيم موقع من عشر جمعيات فقط، أما جمعيتا الصحافيين والمحامين، ومحمد الجاسم عضو في الاثنتين، فما أذكره أنهما لو صمتتا لكان أفضل من صيغة بيانيهما المهلهلين اللذين يبدو أن أربابهما جاهدوا لإمساك العصا من منتصفها.


لنترك جمعياتنا المتعايشة على صدقات وهبات السلطة، وهي تكيل بيانات الشكر والعرفان لأريحيتها وكرمها، ونهمس في آذانهم: إن من يقبض يخسر حريته، ويصبح صوته صدى يردد كلمات الواهب. لنبحث عن نواب الأمة من الذين توسمت فيهم خيراً… أين هم؟ ذكروني بغير النائب مسلم البراك، وهو كوكب في سماء الناشطين من أجل حرية الضمير، ومعه قلة من التكتل الشعبي مثل خالد الطاحوس، وبضعة نواب آخرين، من غير هذا الكوكب ورفاقه من النجوم المتلألئة في ليلنا، ومعهم الزميل أحمد الديين وقلة من كتاب الضمير، يرافقهم نواب سابقون مثل مشاري العصيمي والدكتور فهد الخنة والكبيران الخطيب والنيباري، من غير هؤلاء انتفضوا ورفضوا ما يحدث لحرية الضمير وسجين الرأي؟ من غير مسلم البراك وأحمد الديين وغانم النجار، ومعهم شباب واعون قد دعوا إلى التجمعات الشعبية، وأصدروا بيانات الرفض… وقالوا كلمة "لا" كبيرة لما حدث لتكبيل صاحب الرأي بالقيود، وزجه في سجون أمن الدولة من أجل كلمات نقد ونصح لمسؤولين ولا أكثر…؟


كم مضى على حبس الجاسم…؟ لا نعد بالأيام ولا بالأسابيع… وخشيتي أن نبدأ الحساب بالشهور وغداً بالسنين لا قدر الله… فأين أنتم يا نواب الشعب؟ وأين أنتم يا وكلاء الحق بعد أن خيط فم من فوضكم وصوت لكم بكلبشات الحديد…؟ أين دفاعكم عن الحريات…؟ أين اقتراحاتكم لتعديل قوانين الجور ونسف الكلمات المطاطة في قوانين أمن الدولة والجزاء والمطبوعات والنشر…؟ ليست هي قضية محمد الجاسم الآن… هي قضية حرياتنا وحرياتكم… ليست هي قضية محمد أو زيد أو فلان من الناس الذين اختلفنا معهم في السابق، وتحفظنا على مواقفهم وإنما هي قضية موضوع… عنوانها حرية الضمير.


لا أحد يريد أن يتدخل في القضاء ولا في سلطانه، فلا تتذرعوا بتلك الذريعة، ولا بتلك الحجج الواهية… لأن من حقنا أن نتدخل ونستنكر على من أوصل الأمور إلى هذا الحد، وطرق باب القضاء من دون مبرر معقول… من حقنا أن نفرق كبشر أحرار بين حكم القانون والتعسف في حكمه… لا تقولوا لنا إنه ليس من مصلحة الدولة أن تصل مسألة الجاسم إلى المنتديات الدولية… فهذا مصلحة لحرية البشر… وما هو صالح لهم يكون بالضرورة صالحاً للدولة… لتصل حكايتنا إلى أسماع منظمة العفو الدولية وبقية منظمات حقوق الإنسان والدول المهتمة بالشأن الإنساني… لأننا بصراحة نكاد نفقد الأمل بكم، ومللنا ثرثرتكم… فإذا كنتم لا تسمعون… فهم حتماً بالخارج سينصتون… فسيادة الدولة ليست مطلقة في عالم اليوم… فحرية الضمير تضع حدوداً واضحة لهذه السيادة في الدول التي تتبجح بديمقراطيتها المزعومة وبحرية إعلامها المقهورة… تذكروا يا سادة أننا مواطنون ولسنا رعية في فيافي الجدب.


احمد الصراف

لا إنسانية النقاب

إثر صدور قانون يمنع ارتداء البرقع في بلجيكا، ومصادقة البرلمان الفرنسي على منعه في الأماكن العامّة.
انقسم الناس في البلدين المعنيين وخارجهما بين مؤيدين ومعارضين، واحتدمت مناقشات حامية حول «شرعية» النقاب، أو البرقع، ليس فقط بين رجال الدين، بل شمل النقاش المفكرين والعامة. وحجة المؤيدين هي «الحرية» وأن من حقّ المرأة ارتداء ما تشاء، لأنه جزء من الحرية الشخصية، التي تؤمن بها أوروبا والغرب عموما! ولو نظرنا بعمق أكثر لوجدنا أن المسألة ليست بمثل هذه البساطة. فالوجه، في كل الثقافات والمجتمعات، وعلى مدى التاريخ كله، مع استثناء مجموعات غير ذات أهمية كالطوارق مثلا، لم يوجد لكي يغطى، ولم يصمم له الانسان أي رداء أو غطاء كبقية أجزاء الجسم الأخرى. وبسبب تركز أربع من حواسنا الخمس فيه، فان المنطق يتطلب أن يبقى مكشوفا ليتعرف بعضنا على بعض، ونشعر بالتواصل الانساني والأمان، أو عكسه عند «المواجهة»، فحتى أجهزة الروبوت، التي تحاكي البشر في حركاتها وهيئاتها، لها رأس يشبه رأس الانسان، وعند التواصل معها ننظر إلى وجه الآلة، ونتحدث اليه «مواجهة» على الرغم من عدم ضرورة ذلك، لأننا نتحدث مع آلة، ومن هنا نجد أن موضوع البرقع أو النقاب أخلاقي واجتماعي، ولا علاقة له بالحرية أو الاختيار الشخصي.
وفي هذا الصدد يقول كاتب مغربي، لا يحضرني اسمه، نقلا عن الفيلسوف الفرنسي ايمانويل ليفيانس: «إن الانسان بوجهه، فلا انسان الا بوجه. فالوجه، اضافة الى اللغة، هو عنوان الانسانية فينا. فأنا لا ألتقي بالآخرين الا بالوجه، والوجه هو الجزء الذي يستمر في الانفعال و «التعبير»، وتوقّف تعبيراته هو رديف للموت…»!
وعندما يعتبر هؤلاء المتشددون المتخلفون، واللاانسانيون، أن وجه المرأة عورة وصوتها عورة، فهم بجرة قلم يلغون انسانيتها ووجودها بالتبعية، وتصبح مجرد وعاء ولادة وقضاء حاجة جنسية وخدمة منزلية. فتغطية الوجه دلالة على رفض كلّ علاقة أخلاقية أو انسانية مع الآخر، أو الانتماء للمجتمع. وهنا نرى في كثير من المجتمعات التي ينتشر فيها ارتداء البرقع، كالمجتمعات الخليجية والأفغانية، أنها المجتمعات نفسها التي ليس للمرأة فيها أيّ وجود اجتماعي أو سياسي، فكيف يمكن بالتالي التعلل بأن اختيار البرقع هو نوع من الحرية الشخصية لمن لا وجود لها، اجتماعيا وأخلاقيا وانسانيا؟ ومن شبه الاستحالة فوق ذلك التعلل بأن النقاب خيار شخصي يعود للمرأة نفسها حق اختياره أو رفضه. فلو نظرنا للخلفيات الاجتماعية والعائلية لغالبية المنقبات لوجدنا أن بيئتهن يتحكم الذكور فيها بشكل كامل، سواء كأزواج أو اخوة أو آباء. وهؤلاء لا يؤمنون غالبا بحق المرأة في الاختيار، أو بالحرية بشكل عام، خاصة اذا تعلق الأمر بأصل من أصول الدين. وبالتالي يصبح كل حديث عن حرية ارتداء النقاب هراء ما بعده هراء!

أحمد الصراف