محمد الوشيحي

ومن الدسك ما قتل


الزعل ممنوع والعتب مرفوع…


عادة جميلة تملكتني منذ فترة، وهي "قراءة الخبر ذاته في صحف عدة" للمقارنة بين مستويات التحرير والصياغة، أو ما يُطلق عليه صحافياً "الدسك". ومسؤول الدسك هو الذي يكشف لك مستوى الصحيفة، ومدى احترامها لك ولنفسها، وهو الذي لم يجلس على كرسي "الدسك" إلا بعد أن ظهرت تجاعيد الخبرة والنبوغ على وجهه، وبعد أن تزاحمت المعلومات العامة الهائلة في مخه.


ويقرأ الناس الأخبار بتوقيع الصحافي الفلاني والعلّاني، لكنهم لا يعلمون أن أهم صحافي شارك في الخبر هذا هو مسؤول الدسك، دون أن يُشار إلى اسمه. وقد لا يعلم الناس من خارج الوسط الصحافي مقدار الصراع الخفي بين الصحف على مسؤول الدسك وسكرتير التحرير، لندرة المبدعين في المجالين هذين.


ويجلس مسؤول الدسك ليستعرض الأخبار المكدسة على مكتبه، خبراً تلو خبر، ثم يعيد صياغتها من جديد. فهذا محرر ترك خبراً على مكتب الدسك "حُكْم بإعدام سائق آسيوي شنقاً. السبب: قتل سيدة لأنها اكتشفت حبه لخادمتها فضربتها ومنعتها من التلويح له من الشباك. المكان: السالمية"، وهذا محرر اقتصادي ترك خبراً آخر "مؤشر البورصة يرتفع بعد ثلاثة أشهر من الانخفاض"، وهذا خبر برلماني، وخبر رياضي، وخبر فني، ووو… فيكتب مسؤول الدسك عنواناً لجريمة القتل: "ومن الحب ما شنق"، وفي تفاصيل الخبر سيتحدث عن روميو وجولييت، وقيس وليلى، ويقارنهم بعشاق زمن التكنولوجيا، ومستوى المجرمين الثقافي، وسيتطرق إلى علاقة السكّين بالعشق، وسيربط الجريمة بمثيلاتها في العالم، فيجد القارئ أمامه مادة غنية بالمعلومات التاريخية، وبالخبر، وبنتائج الدراسات، مصوغة بحرفية، وفي أصغر مساحة ممكنة. وسيجد القارئ الخبر ذاته في صحيفة أخرى كُتب هكذا: "إعدام سائق آسيوي قتل كفيلة معشوقته". نقطة. الله يعطيه النقطة.


ولو أنني تحدثت بشفافية، لقلت إن الدسك الحقيقي، إلى حد ما، ستجدونه في صحف "الجريدة، والقبس، والراي، وعالم اليوم، والأنباء (في السنتين الأخيرتين)، والسياسة (في الفترة الأخيرة أيضاً)". على أن دسك صحيفة "القبس" كمنتخب ألمانيا، ستجد القوة والمتانة والترابط، لكن حاجبيك لن يرتفعا إعجاباً، وكفّيك لن يلتقيا تصفيقاً. هي جريدة، برأيي، تمشي على الكتاب، وعلى الخطوط الأرضية، لا يمكن أن تخطئ، ولا يمكن أن تُذهل. أما دسك "الراي" فهو كالمنتخب البرازيلي الذي يستعرض فيبهرك لكنه يخسر بسهولة. سيستقبل الخبر على صدره، ويطير في الهواء ليلعبه "باك وورد". أما جريدة "الجريدة" فهي كالمنتخب الفرنسي، هي خليط من ده على ده، تمشي على الخطوط الأرضية أحياناً، وتستعرض أحياناً لكن بخجل، وستحرص جيداً على ماركة الكعب العالي وهي تركل الكرة بالكعب.


ولو تناولنا خبر ارتفاع مؤشر البورصة بعد انخفاض استمر ثلاثة أشهر، فسنقرأ في القبس: "مؤشر البورصة يعاود ارتفاعه بعد انخفاض دام ثلاثة أشهر"، عنوان كما في الكتاب، وتحته تحليل فني مطوّل، لن تجد خطأ لا في صياغته ولا في نص الخبر، لكنك ستقسم أن من صاغه أفنى عمره موظفاً في أرشيف البلدية. أما في "الراي" فستقرأ: "البورصة تخلع ملابس الحداد وتستعرض فتنتها بفستانها الأخضر"، ولن تُتعب "الراي" نفسها في تفاصيل الخبر، بل ستكتفي باستطلاع آراء المهتمين هاتفياً. أما في جريدة "الجريدة" فستقرأ: "بعد بورصات نيويورك وباريس وطوكيو… بورصة الكويت تحقق رابع أعلى ارتفاع على مستوى العالم"، فقد بحَثت وناقشت وكلّفت مكاتبها في الخارج عمل تحقيقات، ثم كتبت، لكنها خففت البهارات والفلفل والليمون إلى أقصى درجة، فقد يكون أحد القراء مصاباً بارتفاع الأملاح أو الضغط، بعكس جريدة "الراي" التي ننصح بقراءتها بقرب "دولكة ماي" أو بقرب بئر ماء، إن أمكن.


أما جريدة "الوطن" فستكتب على صفحتها الأولى وبخط أعرض من وجه نواب الحكومة: "أيواااااا… البورصة فوق النخل فوق فوق… عاش واقف"، فهي تفهم المزاج العام، لذلك يبدو أنها أوكلت مهمة الدسك إلى أحد طلبة "ثالثة أدبي". وستكتب جريدة "الدار": "نجادي: أميركا تحارب بورصة إيران… وشيعة السلفادور يعلنون تضامنهم مع حكومة المحافظين". أما جريدة "الأنباء" فستتلفت تسع مرات قبل أن تكتب خبرها، كي لا تُغضب أحداً، فإذا تأكدت من ذلك عنونت: "البورصة تعيد التفاؤل المفقود". وستكتب جريدة "السياسة": "البورصة ترتفع باستحياء… ويجب تدخل الحكومة لتعويض الخسائر". وستسلك جريدة "عالم اليوم" خطاً منفرداً كعادتها: "ارتفاع مؤشر البورصة بشكل فجائي يؤكد وجود تلاعب… المسؤولية برسم البرلمان".


تابعوا صياغة عناوين الأخبار وتفاصيلها، وادعوا لي…


احمد الصراف

الرجل الذي أحب حذاءه

اضطر رئيس شركة يقع مقرها في مركز التجارة العالمي بنيويورك، وهو المبنى الذي هدمته قوى التخلف والشر في غزوة 11 سبتمبر، اضطر للتخلف عن اجتماع مهم في ذلك اليوم النحس لمرض زوجته واضطراره الى مصاحبة أصغر ابنائه الى مدرسته. كما بقي شخص آخر على قيد الحياة لأن الدور كان عليه في ذلك اليوم لاحضار الحلويات من المخبز القريب، وهكذا ترك المبنى قبل الانفجار بدقائق. ونجت امرأة بحياتها لأن جرس منبهها لم يعمل في ذلك الصباح. ورابع نجا من موت محقق لأن حادث مرور على إحدى مستديرات نيويورك الشهيرة عرقل وصوله الى مكتبه في الوقت المناسب، كما تسبب تأخر باص موظف آخر في الوصول، وبالتالي عدم اللحاق بقطار الساعة الثامنة، وهكذا نجا من الهلاك. كما نجت زميلة له في الطابق نفسه من الموت لأن سيارتها لم تشتغل في ذلك الصباح الأمر الذي أصابها بالهلع، فقد سبق أن تأخرت مرتين قبلها في ذلك الشهر. كما اضطر آخر للسير لأكثر من ثلاثة كيلومترات في ذلك الصباح البارد للوصول الى محطة القطار، بعد أن نسي سؤال زوجته عن مكان مفتاح السيارة عندما غادرت المنزل مساء لزيارة أمها المريضة في مدينة أخرى. وآخر لم تصل سيارة الأجرة لأخذه الى المطار في الوقت المناسب ليكون في المبنى قبل التاسعة صباحا. أما أكثر قصص النجاة من الموت غرابة في ذلك الصباح فقد كانت من نصيب ذلك الرجل الذي كان مجبرا على استخدام أكثر من وسيلة للوصول الى عمله، وما ان بلغ المبنى حتى شعر بألم شديد في إحدى أصابع قدمه اليمنى نتيجة احتكاكها المستمر بجلد حذائه الجديد، مما دفعه الى تغيير خط سيره والذهاب الى الصيدلية لشراء دهان أو لصقة قدم خاصة، وأنقذت تلك الدقائق الثلاثين في الصيدلية حياته!!
والآن عندما تشعر بالاحباط لأنك لم تستطع التواجد في مكان ما في الوقت المناسب، أو أن حذاءك، الذي دفعت فيه مبلغا بسيطا تسبب في إصابة اصبع قدمك بألم، أو أنك نسيت موعد اجتماع مصيري، أو أنك اضطررت يا سيدتي لتكوني بجانب ابنك في مدرسته لأنه تشاجر مع زميل له بدلا من أن تكوني ضمن مستقبلي رئيس الشركة الجديد، أو أن تشعر بالحنق لأنك لم تلحق بمصعد الطابق السبعين في الوقت المناسب فعليك أن تقول لنفسك أنا هنا وهنا يجب أن أكون، وليس لدي خيار آخر، فعندما يتأخر الأبناء في ارتداء ملابسهم وتقبل الواقع، فقد يكون في الأمر نجاتك، فقدرك أن تكون في تلك النقطة في تلك اللحظة. وعندما ننظر حولنا في هذه الأيام في الكويت، ونجد كل هذا الكم الهائل من منغصات الحياة من خلال وجوه نواب مكفهرة ودعوات بعض أئمة المساجد المزلزلة وأوضاع الاقتصاد المدلهمة، فيجب ألا نشعر بالحزن ولا بالغضب فقد يكون الخير في كل هذه الأمور المحزنة، وما علينا سوى الذهاب الى أقرب وكالة سفر وشراء تذكرة، ولو بالدين، ومغادرة الكويت لأطول فترة ممكنة.
(مقتبس من مقال على الإنترنت)

أحمد الصراف