التقيت بمحمود في الثانوية التجارية وأحببته لبساطته وطيبة قلبه، وكان ذلك في ستينات القرن الماضي. لم يكن محمود ذكيا ولا مواظبا على الحضور، كبقية أقرانه من الطلبة الفلسطينيين، ولكن لم يكن لطموحه وأحلامه حدود، فقد كان يحلم بأن يصبح يوما ما نجما سينمائيا أو رجل أعمال. كما كان يحلم دائما بالهجرة، وإلى أميركا بالذات. ولسبب ما كان واقعا في غرام كلمة جست JUST الإنكليزية، ويؤمن مخلصا بأنها من أهم الكلمات وأعظمها لفظا، خصوصا عندما ينطقها بطريقة استعراضية مادا ذراعيه على أقصى امتدادهما. وكان يردد كلمة «جست» في الجد والمزح والحزن والفرح، فان أعطيته شيئا يبادرك بالقول شكرا «جست»، وإن أخذت الكرة من بين قدميه لحق بك وهو يردد متحمسا «جست جست»، وكان على قناعة بأن سر اللغة الإنكليزية وجمالها -وهي اللغة التي لم يكن يعرف منها غير كلمات معدودة أخرى- يكمن في كلمة JUST، وفي أحد الأيام فاجأنا محمود بالقول انه غير قادر على الاستمرار في الدراسة، وانه سيتوقف عن الحضور ويتفرغ لطلب الفيزا لأميركا، وأنه سيستمر في التواجد ليل نهار أمام السفارة حتى يقبل طلبه، ولو تطلب الأمر النوم أمام بوابتها. مرت الأيام متثاقلة ونسينا محمود مع مشاغل الدراسة والاستعداد لامتحانات نهاية السنة، وفي يوم ما جاء من يخبرنا أن «محمود جست»، وهكذا أصبح اسمه الرسمي بيننا، قد نجح في الحصول على الفيزا وانه هاجر بالفعل إلى أميركا.
تركت الدراسة في نهاية ذلك العام وعملت في بنك الخليج ومرت سنوات طويلة تغيرت فيها أحوالي كثيرا وتزوجت وانجبنا ابنة، وفي أحد الأيام وعندما كنت في إحدى محطات تعبئة الوقود لمحت من يشبه «محمود جست» مرتديا غترة وعقالا فوق بدلة العمل التي كانت مقررة على العاملين في شركة البترول وقتها. وعندما جاء دوري في المحطة أوقفت محرك السيارة ونزلت منها متجها نحوه فيما أنا مرتبك خشية التسبب في احراجه، فقد كنا نجلس معا على مقاعد الدراسة نفسها ونتقاسم «سندويتشة» الفول أو الفلافل من مطعم أبوخليل القريب. ولكنه لم يتعرف عليّ، فربما تغيرت ملامحي أنا كذلك، أو ربما دفعته عزة نفسه لأن يتماسك ويتجاهلني، وبادلته الأمر ذاته رحمة به وبنفسي. وعندما انتهى من تعبئة خزان الوقود دفعت له الحساب بعد إضافة خمسة دنانير عليها، وأسرعت لتشغيل سيارتي ومغادرة المحطة، ولكن سرعان ما لحق بي محمود مناديا، بعد أن انتبه إلى أنني دفعت له أكثر من ضعف ما هو مطلوب مني، طالبا مني التوقف وعندما فعلت مد يده بمبلغ الخمسة دنانير، قائلا انني دفعت له أكثر من اللازم، فلم آخذ المبلغ منه، بل سألته إن كان يعرف الإنكليزية فقال: «شوي»، فقلت له:IT IS JUST FOR YOU فرفع يده لرأسه شاكرا ولم يقل شيئا.
وفي اليوم التالي، شعرت بأنني قصرت معه وانه كان يجب عليّ فعل شيء من أجل صديق قديم، ولكني لم أره بعدها أبدا، بالرغم من أنني قمت باستخدام تلك المحطة مرات عديدة في الأسابيع التالية، وعندما اتصلت بشركة البترول الوطنية، حيث يعمل، لأسأل عنه في شؤون العاملين سألتني الموظفة عن أسمه الكامل فارتبكت ولم أجد جوابا، بعد أن اكتشفت أننا، وفي غمرة سعادتنا بمحمود وبإطلاق لقب «جست» عليه نسينا اسم عائلته!
أحمد الصراف