على وقع أنغام المطارق وموسيقى الجلبة التي يعزفها جهاز الرنين المغناطيسي (MRI) فوق رأسي، تمددت ورحت أقرأ صفحات من ذاكرتي المنهكة، ذاكرة ذلك الكاتب الذي تقوده إلى التمرد صبوة يدعمها جموح بلا نزوة، هنا دعوى قضائية رفعها المسؤول الفلاني، وهناك دعوى أخرى رفعها الوزير ذاك، وثالثة ورابعة وعاشرة، وتساءلت وأنا ممدد داخل أنبوب الأشعة: ترى، لماذا لم تستدعِ النيابة الوزراء والمسؤولين الذي عبثوا بالديرة كما يعبث الطفل بالكيكة؟ لماذا يخرج الوزراء من عجين المسؤولية كما الشعرة البيضاء من غير سوء، ونغوص نحن إلى أخمص حرياتنا في العجين؟ تأثيرهم كتأثيرنا كبير، لكن أقصى عقاب يتهددهم هو «طرح الثقة» فيهم، وهو عقاب شديد لا شك، لكن السؤال السهل هو: كم وزيرا طُرحت فيه الثقة؟ والجواب الأسهل هو: لا أحد يا صاحبي. والسؤال الآخر هو: كم وزيرا أحيل إلى محكمة الوزراء؟ والجواب الآخر هو: يعدّون على أصبع واحدة، البنصر، أو الوسطى إن كانت بنصرك مصابة كما بنصري. وهنا يأتي دور السؤالين الكبيرين: إذاً من الذي عبث بالكويت كل هذا العبث؟ ولماذا لم يحاكم؟ الجواب عند الحكومة ولا أحد غير الحكومة. هل هذا من العدل يا أولي الجلباب؟ وزراء تتحكم أقلامهم في حياة الناس وحياة أولادهم وأحفادهم، ورغم ذا لا يحاسبون على ما تقترفه أقلامهم تلك، ونحن الكتّاب لا حيلة لنا ولا حيل إلا الصراخ ملء أقلامنا، فإذا بهم يسعون جاهدين إلى سجننا وكسر أقلامنا ودلق أحبارها على أرجل كراسيهم! على أمل أن «نرفع أقلامنا ونجفف صحفنا»، وهو أمل – لو يعلمون – بعيد.
والمشكلة الأخرى أن الكويت هالكبر، وأهلها هالكثر، وكلهم داشين في بعض، هذا نسيب ذاك، وأولئك أخوال هؤلاء، وتعال فكك، أو تعال انتقد أحدا في مقالة، ستنهمر عليك أمطار العتب من أناس لم تكن تتوقع أن لهم صلة بالمسؤول الذي انتقدته، والمسؤول أصلا من النوع الغبي الذي يتكاثر في المناطق الاستوائية، وهو يدوبك يفك الخط السياسي: «ألِف بيم جيم طيم»، وجاؤوا به إلى الحكومة إرضاء لطائفته ومكافأة لعمّه أو عمته أو إحدى هاتين العقوبتين، ونحن كشعب لنا حرية الاختيار بين أن نضرب رؤوسنا بهذا الجدار أو ذاك الجدار، الدستور كفل لنا الحرية، ولم تلده أمه بعد مَن يجبرنا على جدار معين.
تدور الأيام، فيعُكّ المسؤول هذا كما جرت العادة، فتنتقده أنت كما جرت العادة أيضا، فيأتيك اتصال من عزيز قوم افتقدته سنوات، فتفرح باتصاله وتبادله الضحك وتغني له أغنية فيروز: «كيفك انتا، ملاّ انتا، كيفك قال عم بيقولوا صار عندك أولاد»، فيرد الضحكة بمثلها والأغنية بأحسن منها قبل أن يفاجئك: أفا يا فلان، ما هقيناك تضرب صاحبنا في مقالتك؟ / ومن هو صاحبكم؟ الوزير فلان / معقولة، الوزير فلان صاحبك؟ / نعم أنا زوج ابنته / أنعم به وأكرم من نسب، لكن لماذا لم تعاتبه هو قبل أن تعاتبني، لماذا لم تقل له: «أفا يا عم، ما هقيناك تضرب صاحبتنا الكويت»؟ فيأتيك رد صاحبك القديم صاعقا ناعقا: يعني وقفت عليه هو بالذات؟! فتستمر أنت في أجواء فيروز وتغني معها: «سلّم لي عليه». سلّم لي على البلد… راح.