بدأت تحركات شبابية، مثل التجمع الشبابي «صوت الكويت»، إضافة إلى كتاب المدونات، وتجمعات شبابية أخرى، تهدف إلى التصدي للقوانين التي تتناقض مع الدستور ومنها الرقابة على الكتب. فنحن على أبواب معرض الكتاب المقبل في نوفمبر، وبدأت الأجواء الرقابية تشحذ همتها لإحكام عملية القص والمنع بحق الكتب التي ستعرض في معرض الكتاب، وهذا بطبيعة الحال سيفرغ المعرض من مضمونه وقيمته.
لقد تحوّلت الرقابة إلى مسألة كبيرة تستخدم أساساً من قبل قوى لإخضاع قوى أخرى، وتعكس محاولات من التيار الديني، والحكومة في الوقت نفسه، الوصول إلى مساومات سياسية في مسائل أخرى. ولكن المساومات تتم على حساب المجتمع وصحته النفسية والاجتماعية، فمنع حق الاختيار عن الأفراد تحت مبرر الحفاظ على العادات والتقاليد، وغيرها من القضايا، يهدف أساساً إلى التحكم في الجيل الصاعد، وطرق تفكيره، وتحويله إلى مادة جيدة للتنظيم الحزبي والسياسي المغلق. فمن الكبت الفكري في مسألة الرقابة إلى الكبت بأنواعه الأخرى. يتحول بعض الشباب إلى مشروع مغلق على نفسه من الطراز الأول، وهذا يجعله فريسة رؤية أحادية للتاريخ والواقع والمستقبل والدولة والاختلاف. إن الأساس في مسألة الرقابة كما تمارس هو التحكم، وهو لا يختلف عن محاولات التحكم في مجتمعات أخرى في زمن الشيوعية. إن هذا كله يتناقض كل التناقض مع ما تعلن الدولة أنه هدفها.
إن الرقابة في الأساس تشكك في قدرة الإنسان والمواطن على أخذ القرار الصائب بخصوص الكتاب الذي يمكنه قراءته، كما أنها تشكك في الفرد مفترضة أن رؤيته مسرحية أو مسلسل، أو قراءته لكتاب تعني قبوله كل ما جاء في الكتاب وكأنه ديانه. هكذا يعتقد من يطرح فكراً مغلقاً…
إن الجميع سيتعامل مع الكتب والمسرح والفكر وكأنه أمر مغلق. ولكن الرقابة لم تأخذ بعين الاعتبار أن مجتمعاتنا وأفرادنا يتعرضون إلى كل شيئ كل يوم خارج وداخل الكويت عبر الإنترنت وعبر الحياة، إن فكرة الرقابة تقع الآن خارج الزمان.
إن المشكلة الأساسية في الرقابة هي الوصاية على المجتمع والأفراد والناس. فكم من قصة منعتها الرقابة في الكويت قام المئات بقراءتها، وكم من مسلسل تلفزيوني أو مسرحية حذفت منه لقطات بسبب رقابة، ويقوم الكثيرون من الناس برؤيتها كاملة بلا رقابة عبر الإنترنت. من الذي يحق له أن يحذف مشاهد مهما كانت من فيلم يعرض في كل مكان في العالم، منتقصاً من حق المشاهد أن يشاهد الأمر بأبعاده كلها وأن يحكم عليه، ومن الذي سيتأثر من جراء قبلة في فيلم أو وضع زجاجة للمشروب أو نقد لديانة. لو كان الأمر كذلك لكان المنع قد خلق المدينة الفاضلة في مدن المنع، ولو كان صحيحاً أن الفيلم والقصة والكتاب هو أساس الفوضى لوجدنا الفوضى في كل مكان في العالم، ولما كان هناك حضارة في أي مكان.
إن الرقابة تفترض أولاً أن الناس لا تفكر ولا تمتلك عقلاً. ولو كان هذا صحيحاً لوجب علينا أن نمنع كل شيئ، فنمنع الغناء، ونمنع الشعر والسفر، ونوقف إرسال البعثات الطلابية إلى الخارج، ونغلق السفارات في العالم، ونمنع الإنترنت والساتلايت، ونقوم بما قامت به الصين في واحدة من أسوأ مراحلها في أواسط الستينيات… زمن الثورة الثقافية.
إن المنع هو أساساً أسلوب في التفكير، وهو أحد الأسباب الممهدة للتطرف. فالمجتمع المكبوت في الجوهر مجتمع يميل إلى إساءة استخدام الحرية عند أول منعطف. بل يصح القول بأن قراءة الكتاب، ومعرفة الحقيقة مهما كانت بتنوعياتها كلها، هي الكفلية ببناء المناعة للجيل الصاعد، فالحرية تعلم على المسؤولية وتنتج الكثير من المناعة. بمعنى آخر، إن التعرض إلى كل شيئ، ورفع السقف، وإلغاء الرقابة، إلا من أمور محدودة وفي أضيق نطاق، هو المدخل لإنشاء جيل صحي مسؤول يقرأ بمسؤولية، يشاهد السينما والمسرح والقصة والكتاب بحرية، يعرف كل شيئ ويعرف كيف يتعامل. إن رفع الرقابة يعني تمجيد العقل، وتمجيد الروح الإنسانية، أما الرقابة فهي تسيء أشد الإساءة للدين والصحابة والأخلاق، وذلك لأنها تفترض أن هذا كله من الهشاشة والضعف بحيث إن كتاباً واحداً قادر على قلب كل شيء.
لنتذكر أن مجتمعات قبلنا اكتشفت مع الوقت أن المنع يؤدي إلى نتائج معاكسة، وأن الحرية تساهم في الاعتدال لدى الغالبية، كما اكتشفت تلك المجتمعات أن المنع يدمر الإبداع، ويدمر روح الانتاج الإنساني والأدبي للناس فيخلق تطرفاً مشوهاً… لنتذكر أن طبيعة الإبداع أنه يلامس ما هو غير محكي، وأن الإبداع يلامس ما يخفيه الناس عن بعضهم البعض، لهذا اقترن الكثير من الإبداع المسرحي والكتابي والموسيقى، والأدبي، والشعري بالتحدث عن الأمور كلها: السياسة والمعارضة، الدين وتفسيره، التاريخ ورؤيته من منظور مختلف، الواقع ونقده بقوة وبشدة، النفسية الإنسانية بتناقضاتها، والعلاقة بين الرجل والمرأة بأبعادها المختلفة. إن الابداع يتحدث عن كل شيء، فلماذا نخاف إن كنا واثقين؟