تتناقض التقييمات والأجواء على مسألة الحرية في الكويت. فبالإمكان من جهة رؤية غياب هذه الحرية في الكويت في ظل أجواء التحريض التي تزامنت مع حادثة تأبين عماد مغنية، ومن جهة أخرى بإمكان كل فرد أن يرى كيف تكتب الصحافة الكويتية عن كل ما تريد، بينما تتلذذ في تحدي الخطوط الحمر. أحياناً تفعل ذلك بمهنية وأحياناً من دون مهنية.
ورغم مرور شهور طوال على قيام مجموعه من الكويتيين بقيادة نائبين على إقامة مجلس عزاء لعماد مغنية الذي اغتيل في دمشق، إلا أن السؤال وبعد أن قرر القضاء أن التأبين لا يعتبر مخالفاً لقانون، هل كانت حادثة التأبين تستحق ردود الفعل كلها التي أثارتها في حينها الحادثه؟ لقد أدت ردود الفعل على التأبين إلى توتر بين أعضاء في البرلمان، ثم بين الحكومة والحكومة، والحكومة والشارع، وبين الشيعة والسنة. ربما تكون هذه الحادثة فرصة لنا لنتعلم كيف نتعامل مع القضايا التي نختلف عليها، والتي تدخل في صميم الحريات في الوقت نفسه؟ ربما آن الأوان أن نفكر بمسائل الحريات بدرجة من العاطفة أقل وبحدة أقل وبعقلانية أكبر؟
إن الحرية لا تتجزأ، ولا يمكن أن نقبل بها لطرف دون طرف، أو أن نرفضها لأحد دون أحد. فحادثة التأبين تعكس هذا الأمر بصورة واضحة. فبإمكاني أن أكون معارضاً لمغنية، ورافضاً لجزء كبير من الممارسات التي تميز بها، خصوصاً تلك التي اقترن اسمه بها تجاه الكويت، ولكن في الوقت نفسه لا أستطيع أن أمنع عدداً من المواطنين من أن يتجمعوا في مشهد حزن وتأبين على موته. وفي الوقت نفسه مبدأ الحرية يعطي كل مواطن الحق في انتقاد هذه الممارسة، ولكنه لا يعطي الأجهزة الرسمية الحق في اعتقال والتحقيق مع من ساهم في التأبين وزار مجلس العزاء. ففي هذا العصر والزمن لا يحق لنا أن نمنع الناس من أن تفرح، أو أن تحزن، أو أن تقول رأياً، أو تعارض رأياً، طالما أن هذه الجماعة لم تحمل سلاحاً أو تكسر ممتلكات عامة أو خاصة للتعبير عن هذا الرأي. أما مسألة جرج المشاعر فعلينا أن نعتاد عليها في إطار الرأي والرأي المضاد وحق كل طرف في أن يعطي رأياً، فمشاعرنا يجب أن نعتاد على ألا تجرح من جراء ما يكتب كل يوم وفي الفضاء والصحافة والمدونات وإلا تحولنا إلى حال من الحزن الدائم. ربما علينا أن نقول لأنفسنا هذا مجرد رأي طالما أن الحق بالرد قائم، وطالما أن الرأي لا يتهم أحداً بالكفر أو الخيانة أو القتل في إطار تزييف للحقيقة.
لنأخذ مثلاً مختلفاً. إبان الحرب العراقية الإيرانية لم يكن من حق أي مواطن كويتي متفهم لوجهة النظر الإيرانية من التعبير عن رأيه، بل دفع ثمن كبير. كان الجميع مع صدام حسين بصفته حارس البوابة الشرقية بامتياز، ولم يكن أحد قادراً على البوح بغير ذلك في الكويت، لأن صدام يمثل دولة صديقة. استمر هذا الوضع لعشية الأول من أغسطس 1990.
من جهه أخرى، لم يكن بعد الحرب العراقية – الإيرانية أحد قادر في الكويت على نقد النظام العراقي أو سياساته الإقليمية. هذا كان ينطبق على الأنظمة كلها التي للكويت علاقة صداقة معها. ولكن ما علاقة الصداقة بين الدول والرأي والرأي المضاد؟ هكذا كانت الأمور في ذلك الزمن. أذكر حادثة وقعت معي شخصياً في الجمعية الطبية الكويتية عندما انتقدت علناً صدام حسين وسياساته وأسلحته الكيماوية وتهديداته الضعيفة في بدايات أبريل عام 1990، كان ذلك بعد أن أعلن الرئيس العراقي في حينها أنه يمتلك أسلحة كيماوية وأنه قد يستخدمها، وإلى ما ذلك. كانت النتيجة تحول الأمر إلى موقف سلبي دفع برئيس الجمعية لمنعي من الإجابة عن الأسئلة أو الرد على التعليقات أثناء الندوة التي كنت ضيفها الرئيسي مع الراحل عبد الوهاب المسيري. ولكن ماذا حصل بعد شهور عدة؟ فوجئ الجميع بغزو 1990، وتحولت الكويت كلها نحو العكس.
إن الرأي هو مجرد رأي، وعلينا أن نصل إلى مرحلة نتجاوز فيها هذه الحدة في التعامل مع الرأي، ويجب أن نستميت في الدفاع عن حق الذين نختلف معهم في التعبير عن رأيهم، لأنه قد يحتوي على بعض الصحة، ولأنه من خلال هذا ننجح نحن في نيل حقنا في التعبير عن رأينا الذي هو الآخر سيحتوي على بعض الصحة. حتى لو كانت الناس كلهم والمجتمع كله ضد هذا الرأي يجب أن تكون الفئات الأخرى قادرة على أن تقول رأيها بقوة وبأمان، وبعيداً عن تعدي الآخرين.
إن التأبين عندما وقع احتمل الصواب والخطأ، ولكن تخوين الناس واتهامهم، رغم الاختلاف معهم واعتقالهم للتحقيق لأيام لا يحتمل الصواب والخطأ، فالتخوين والتكفير والاعتقال عند التعامل مع رأي هو خروج عن الإطار وتدمير للحريات. ومتى ما تراجعت الحريات من الطبيعي أن تنحو المجتمعات نحو سلوكيات الشك والخوف وانشاء المتاريس الداخلية. هكذا تأتي شهادة كبيرة للكويت: الأولى عربياً في الحريات الصحافية. ولكن علينا أن نعرف أن هذا لم يأتِ بلا تضحيات ومصاعب، وأن التحدي الأكبر: كيف نحافظ على الحريات القائمة ونسعى إلى تطويرها أمام ضغوط تسعى إلى تراجعها؟ مازال الطريق طويلاً…