قبل أن أضع اللمسات الأخيرة على المقالة الداكنة، جاءني اتصال هاتفي كئيب من خارج البلاد ليسألني بغضب وعتب: «شو يا أبو سلمان، لماذا لم نقرأ رثاءك لمحمد طمليه رغم إعجابك بصعلكته كما تقول؟» فصُعقت وصرخت بصوت خفيض وأنا أحاول لملمة الحروف: «وهل مات صعلوك الأردن؟ أرجوك قل لي لا»، قال: «بلى للأسف، ألا تدري؟ مات الصعلوك منذ نحو عشرة أيام».
يا الله، هذا الساخر الجميل، الأعزب العليل، الضاحك النحيل، القوي الهزيل، محمد طمليه الذي أدخل «القومية والعروبية» المطبخ وتعامل معها كما تتعامل ست البيت مع الملوخية، والذي من خلال مقالاته تابعنا بورصة أسعار الخبز واللحم والبيض في المملكة الأردنية، والذي تزوّج دجاجة بعد قصة حب طويلة، والذي استنزف دموعنا ضحكا على العرب والعروبة، والذي مات آينشتاين قبل أن يشرح له نظرية «النسبية» ومات جده «طمليه الأكبر» قبل أن يشرح له لماذا يجب أن تُعاد الأحذية المقلوبة إلى وضعها الصحيح، والذي صوّر لنا منزل أسرته من الداخل بالتفصيل الهندسي الساخر، وحدثنا عن تلك السيدة الطيبة الساذج، أمه، ودبج المقالات والمقالات عن أفكارها البسيطة المضحكة، عن القطط السوداء عن الرياح عن الدين، وعن علاقة هذا بذاك بتلك بأميركا باليهود، و«وادحش هاظ في هظاك»، فضحكنا وأحببنا أمه. والذي كتب عن بنت الجيران عندما غازلها وهما يتلقيان ماء المطر في طناجر، والذي طلبوا منه التعليق بمقالة على القمة العربية فكتب عن «نهود تلك الصبية وكيف برزت وكأنها كَرَز»، والذي كتب، وكتب، وكتب فأضحكنا وأبكانا… ها هو يضع النقطة الأخيرة للجملة الأخيرة في المقالة الأخيرة وينام بهدوء ضاحك. يا الله.
طمليه، الذي اعتزل الناس وانزوى في بيته بعدما عاش مترفا على مقاهي الرصيف لسنوات وسنوات، ينام على طاولة المقهى هذا ثم يستيقظ ويطلب فنجان القهوة ليكتب فيضحكنا على أنفسنا، ثم ينتقل إلى مقهى ثان في آخر الحارة، من باب تغيير الجو، لينام هناك على الطاولة ثم يستيقظ ويطلب القهوة ويكتب ليضحكنا على مستقبلنا… هذا الصعلوك، هذا التاريخ المليء بالحارات والأزقة والمطابخ والصبايا ورائحة القهوة والثوم، ظهر المرض بوضوح على زاويته الصحافية في الفترة الأخيرة، وشاهدنا أسلاك الأجهزة الطبية تتدلى من أعلى مقالاته، وسمعنا أنات حبر قلمه، دون أن يفصح هو عن ذلك. لكنه كان مكشوفا لنا، نحن متابعو جنونه. قال أحد عشاقه: «إنه يتأوه ويتقلب على السرير الأبيض ويخدعنا بابتسامته»، قلنا: صحيح، نشعر بألمه.
طمليه، تسألنا عن أخبارنا من بعدك؟ حزانى نحن عليك حزن الناقة الخلوج. لا يزال أغلبنا يتبع العمائم الثرية ويكفّرون من يعارضهم. لا يزال أكثرنا يا محمد لم يدركوا بعد بأننا في «أسفل الركب» على رأيك وليس آخره، بسبب المعممين الذين يحرّمون الجَمال ويحللون القتل. لا يزال سكان الكرة الأرضية ينظرون إلى الفضاء ونحن ننتظر الإفتاء. خلها على ربك يا محمد… لكن قل لنا أنت بالله عليك: «شو الأخبار عندك هسّع، هاه»؟