إن التعليم الجامعي الحكومي يعاني من تحديات وإشكالات تزداد خطورة وصعوبة كل يوم. فبينما التعليم الخاص العالي الجامعي يستقطب نسبة كبيرة من أبناء وبنات النخبة في المجتمعات العربية(رغم ضعف 80 في المئة من مؤسساته ومخرجاته) إلا أن التعليم الجامعي الحكومي يستقطب ما لا يقل عن 80 في المئة من غالبية الطلاب والطالبات الذين يتخرجون من التعليم الثانوي. في تلك المؤسسات التعليمية، خصوصاً في التخصصات خارج مجال الهندسة والطب والصيدلة، تبنى بدايات الغضب والاحتجاج أو الانكسار الذي يحمل قطاع كبير من الجيل الشاب آفاقه في نفوسهم وفي أوضاعهم.
ففي الجامعات الحكومية يتعلم الطلبة كيف يكونون بعد تخرجهم موظفين في دولة لن توظف معظمهم، ولن تؤمن لهم في حال توظيفهم ما يجعلهم يشعرون بالفخر والاعتزاز برسالتهم الإنسانية ووظيفتهم. سيشعرون مع الوقت أنهم بلا عمل أو أنهم جزء من بطالة مقنعة أو ما يمكن اعتباره «مؤامرة» على الجيل الصاعد بهدف إدامة الاستقرار السياسي الشكلي. هكذا يكتشفون في فترة زمنية سريعة أن مستقبلهم يتوقف بعد التخرج ببضعة أعوام، كما أنهم يرون في الوقت نفسه آخرين من أبناء النخبة السياسية والعائلية يتبوؤون مواقع كبيرة قفزاً سريعاً، بينما يراوحون هم في أمكانهم في وظائف مملة وأعمال ضعيفة. هكذا أصبحت وظيفة الجامعات الحكومية: تأهيل ضعيف لطلاب وطالبات لكي يلتحقوا بمؤسسات ضعيفة في دول تعيش هي الأخرى حالاً هي الأضعف لها منذ الاستقلال. أليست هذه إحدى أهم إشكالات العالم العربي اليوم أكان ذلك في بعض أغنى دوله أم أفقرها؟
إن الجامعات العربية في جوهرها فقدت دورها الريادي الذي تميّزت به في مرحلة ما بعد الاستقلال، وفقدت الشعور بأنها تحمل رسالة هدفها نهضة الشباب، وتحويلهم إلى دعامة للوطن وللاستقلال وللبناء والتنمية. كان هذا هو حال هذه الجامعات عندما تأسست. كانت منارات للعلم والتنمية وقوة مشاركة في تحقيق بناء الدول العربية في الستينات والسبعينات. أما الآن فهي أصبحت مثل الأحزاب العربية التقليدية ومثل الأنظمة السياسية جزءاً من قوة تشيخ كل يوم، تفقد مناعتها كل ساعة، وتتواجه مع مصاعب تعجز عن إدارتها والتعامل معها.
ما يقع في هذه المرحلة تعليم ركيك، ضعف في الإعداد، تراجع في القدرات الفكرية والكتابية والتعبيرية للطلبة. ويتلازم هذا مع سيطرة كبيرة للتيارات الدينية التي تركز على الفصل بين الطلاب والطالبات، مما ينتج جيلاً لا يعرف معنى الزمالة ومعنى العمل المشترك. إن ما يبرز أمامنا هو إشكالية للضعف العلمي والثقافي مقترنة بدرجة عالية من الكبت الفكري والنفسي والسلوكي الذي نعمقه الآن في الجيل الصاعد، خصوصاً أنه يرى التغيرات الكبرى في العالم المحيط بنا. هكذا تزداد الهوة بين المحلي والعالمي وبين العربي من جهة ومعظم دول وحضارات العالم من جهة أخرى.
آن الأوان لإعادة نظر في التعليم بما يسمح له بالتواصل مع التعليم الذي كان قائماً في الستينات والسبعينات قبل أن تقع التراجعات الراهنة بأبوابها وتعبيراتها كلها. يجب أن يمثل التعليم الريادة والقيادة وحرية في الفكر وفي الطرح، وصيغاً في التفكير متقدمة عن المجتمع والنخب السياسية. إن إهمال هذا الأمر سوف ينعكس سلباً على الدول في المرحلة المقبلة. فهذا الجيل إن استمر على هذا المنوال فسيكون الجيل الذي سيدمر الدول العربية التي نعرفها بشكلها الراهن، ولكنه في الوقت نفسه لن يعرف كيف يبني البديل لأنه فاقد للأدوات المعنوية العالمية والعلمية. فمن مصر إلى السعودية ومن الكويت إلى سورية، تتعمق هذه المشكلة لأنها أصبحت جزءاً من مأزق أكبر في النظام السياسي العربي.