السلطوية عكس الديموقراطية، هناك تناقض كبير بين سياسة القمع التي تمس الحريات الفكرية والإنسانية وبين الديموقراطية كمفهوم. في واقعنا السياسي العربي وفي تجربتنا في الكويت هناك تداخل بين التسلطية من جهة وبين الديموقراطية التي نطبقها. والكويت ليست استثناء، فهي مثلها في هذا مثل بقية الدول العربية التي تحاول السير في طريق الديموقراطية، بينما المناخ الثقافي والذهني والنفسي للثقافه العربية الإسلامية في الأسرة، كما في الشارع وفي المدرسة، كما في الجامعة وفي الحزب، كما في الجمعية ليس ديموقراطياً، ويميل إلى ممارسة التحكم، انطلاقاً من أن التحكم أفضل الطرق لتحقيق الأهداف(حماية التقاليد والعادات)، مع أن التاريخ والواقع يؤكد بأن التحكم هو أفضل الطرق وأقصرها للفشل في تحقيق هذا الهدف.
إن القوى السياسية خصوصاً القوى الإسلامية(ليس كلها) في مجتمعنا ليست على صلة بالتطور الكبير في الحريات الذي شهدته البشرية، فهي تريد العيش في عالم خاص بها خارج دائرة الوجود، لهذا تسعى إلى منع «اليوتيوب» وحجبه، كما صرح أكثر من برلماني في الكويت، وهي تريد تثبيت منع الاختلاط في الجامعات، رغم معرفتها باستحالة ذلك وحصول الاختلاط في كل بعد من الأبعاد، ونجاح الطلاب والطالبات في التحايل على هذا كله، كما يتحايلون على الكثير من السلطات التي تسعى إلى التحكم بحرياتهم. ومن يبدأ من الشباب حياته متحايلاً سوف يستمر يعيش هذا التحايل مدى الدهر ليتحايل على كل قانون وكل مسألة وكل عمل. هكذا نبني جيلاً مهووساً بالتحايل والتخفي والالتفاف على القانون لأنه وجد أسراً وعائلات وقوانين وأنظمة تفرض عليه أن يعتاد على التحايل في أبسط الأمور التي يتمتع بها كل جيل في المجتمعات العالمية.
عقدة التحكم والسيطرة مازالت أساسية في الشخصية العربية، وهي العقدة ذاتها التي تنشئ جيلاً فاقداً للطموح وللروح. عقدة السيطرة منتشرة في الحكومات، والآن تعززها البرلمانات وتعززها القوى السياسية الأهم(قطاع كبير من التيارات الإسلامية). لقد أصحبت السيطرة على مؤسسات التعليم والتربية هوساً يهدف لوضع حدود على الكلمة والنثر والشعر والقصة والفن، والإبداع، والأغنية، والاحتفال والاختلاط، وهذا بالتحديد عكس ما كان يقع في السبعينات حين كان الأساس السماح وليس المنع. بل أصبح هذا كله أكثر أهمية ويفوق بدرجات قيمة التعليم والمعرفة والتفكير والدراسة. وقد تورطت وزارات التعليم عاماً وراء العام بتطبيق هذه السياسة. فلكل شيء خطوط حمر تزداد كل يوم احمراراً، وتُضاف إليها كل ساعة خطوط جديدة تدور في معظمها عن أحكام السيطرة على العقول والحقوق، انطلاقاً من تفسيرات دينية وتطبيقات هي الأخرى كانت لزمن سابق يختلف عن هذا الزمن. هذا كله ليس بعيداً عن مفهوم البعض لتطبيق الشريعة الإسلامية بلا تفكير في مضمون واقعنا ومضمون علوم العصر وضرورات الإبداع في التعامل مع المصاعب اليومية التي يواجهها عالمنا في التعامل مع الحريات.
هكذا أصبح منطلق الكثيرين من المسؤولين: المنع أولاً، ثم الرفض ثانياً، وأصبح كل منع يجر لمنع جديد، وكل جديد يخلق جدلاً ويواجه فشلاً تتم مواجهته بمزيد من الإجراءات القمعية. لهذا تحولت محلات «فيرجين» في الكويت من مكان كبير فيه مساحة للحرية منذ أكثر من عام إلى مكان صغير الكثير من الكتب التي كان يأتي بها، أو الألعاب، أو حتى الموسيقى، لأنها تعاني من الممنوعات. في النهاية يتسوق الشبان مباشرة عبر الإنترنت من النيل والفرات أو من أمازون ومن الدول المحيطة كافة التي لا تضيع وقتها في هذه الإجراءات السطحية. المشكلة أن قوانين وإجراءات المنع والرقابة والقمع معركة فاشلة لن تنتصر بها قوى التحكم، ولكن الهزيمة ستكون مع الأسف من نصيب المجتمع والوطن الأكبر. فضاع الوقت في إجراءات ضعيفة وقمع شكلي فيه الكثير من السطحية، بينما الجيل الصاعد يتمرد بطريقته ويدخل نفسه في متاهات أهمها الاعتياد على الاحتيال على القانون، وهذا لن يكون أمراً مفيداً لأحد.
وهل ما يفرض كله أو يُمنع قابل للفرض أم أنه مدعاة للتمرد على القانون وتحديه مرة وراء الأخرى لحين وقوع تغيير؟ أليس هذا خيار الأفراد، وأنه على كل أسرة أن تقرر حدود الرقابة في ما بينها؟ فـ «الساتلايت» يأتي إلينا بكل شيء، بعضنا حذف محطات عدة، خوفاً من تعرض الأطفال إلى ما يجب ألا يشاهدوه، ولكن كيف لنا أن نتحكم بمن تجاوز 18 أو 21 من العمر وأصبح راشداً قادراً على صنع القرار؟
ولكن السؤال الأكبر: هل نزداد حصانة من خلال ثقافة المنع والقمع هذه؟ هل نتقدم؟ هل نحن أفضل حالاً من غيرنا من دول العالم؟ وهل النموذج للعرب هو في باكستان وأفغانستان أم في قطر والبحرين والإمارات أم في دول الغرب أم من؟ في الكويت وفي دول عربية أخرى، نسقط في الامتحان تلو الامتحان، ونواجه مصاعب حقيقية في إدارة دولنا. الجيل الصاعد أصبح متفرغاً للتحايل على قوانيننا وحدودنا، وهو يتطرف في هذا التمرد باتجاهات عدة لأنه يشعر بنقص كبير يفصله عن الأجيال الشابة في أنحاء المعمورة كلها. من جهة أخرى، لا يحاول أي من الذين يطالبون بزيادة القمع التنبه إلى أن هذا التسلط مسؤول أولاً وأخيراً عن زيادة الانحلال في مجتمعنا وحدة الرفض وارتفاع الظواهر التي يعتبرونها خارجية.
إن الخارج لن يتغير، والعالم المفتوح سيبقى مفتوحاً، والإنترنت لن يختفي، والسينما لن تقل جرأتها بل ستزداد، والعقل لن يتوقف، والسعي إلى الحرية الفكرية والشخصية سينتشر في كل مكان، هذا مسار أخذته البشرية منذ عصر التنوير حتى الآن، وهو مازال يسير بخط تصاعدي. ولكن الذي يجب أن يتغير أسلوب التعامل مع العالم المحيط بنا، فهناك طرق تربوية حديثة ينبغي التعرف عليها، وهناك وسائل نفسية وعلمية في تنمية حصانة الجيل الصاعد قائمة على تطوير التفكير والعقل والمعرفة بالرياضيات والعلم والتعمق في علوم النفس والاجتماع والإنسان والتاريخ البشري والمقدرة على صنع قرار في مواجهة معضلات حديثة.
إن حصانه الجيل الصاعد ممكنة فقط عندما لا يكون الإنسان مكبوتاً في سلوكه وفي ما يراه وما لا يراه. كل إنسان يمر بمراحل، وفي كل مرحلة إيجابيات وسلبيات، فهناك أعوام المراهقة، وهناك أعوام النضج، وهناك أعوام المسؤولية العائلية، وهناك أعوام التمرد والرفض أو القبول والاستقرار. وكثيراً ما تتعايش هذه كلها في الإنسان ذاته وفي الشخصية ذاتها. لهذا فإن الحريات تصبح أساسية في بناء إنسان أكثر مسؤولية وأكثر معرفة بنفسه وبالآخرين وأكثر رجاحة في استخدام عقله بناءً على تجاربه وفي النهاية أكثر سعادة ورضا عن ذاته. إن الذي لم يراهق قد يبقى مراهقاً مدى الدهر. بمعنى آخر، إن التعامل الطبيعي والنمو الطبيعي للإنسان لا يمكن أن تحده وسائل منع الاختلاط ومنع الإنترنت وإغلاق فنادق، لأنها أقامت حفلة وأتت بمغنٍ وقامت فتاة من الجمهور بالاقتراب تحبباً من المغني، بينما يحاول ألا يجرح شعورها وإعجابها، فهذا ما نراه على التلفزات كلها في كل فضائية. بل على العكس لتفتح البلاد، ويبقى أن وجود أغنية وطرب وتعبير إيقاعي عن الفرحة، وأن يتصرف الناس كما يريدون بتلقائية وعفوية(وهذا لا يضر أحداً)، أفضل من تفجير انتحاري في فندق هو نتاج لقهر وكبت كبيرين. بل هناك علاقة كبيرة بين الكبت الذي تمارسه الأطراف الحكومية والدينية وبين التطرف في بلادنا وإعطاء البعض للحق في الإساءة للآخرين بحجة تصحيح الخطأ. هذه العلاقة ستتضح أكثر فأكثر مع مرور الوقت، ومن لا يراها اليوم سيراها غداً. ولو كان فرويد حياً لأبدع في تحليل الواقع النفسي العربي بتناقضاته كلها مع العصر والانفتاح والمرأة والحريات.
إن آخر محاولة لإيجاد مجتمعات مقهورة، تسيطر عليها الممنوعات والقوانين والضوابط الشرعية وغير الشرعية في أدق التفاصيل في الحياة الشخصية وفي الفن في الموسيقى وفي اللباس، هي المجتمعات الشيوعية. كانت تلك المحاولة التي استمرت لأكثر من سبعين عاماً قبل أن تفشل هي آخر ما توصل إليه البشر في فن القمع والتسلط. إن المحاولات الراهنة التي تبرز في مجتمعاتنا العربية هي الأخرى ستهوي بعد أن تكون قد استنزفت نفسها واستنزفت مجتمعاتنا. إن أنظمة التشدد وفرض الرقابة والقمع تهوى دائماً، هذا هو التاريخ فأقرؤوه.
إن الناس أحرار ستفكر كما تريد، وتقرأ ما تحب، وتشاهد الفيلم أو المسرحية التي تفضل، فالعالم كله يتحول إلى «هايدبارك» كبير. هكذا يحب الأفراد بأعمارهم المتفاوتة، خصوصاً الشباب أن يشعروا أنهم أحرار وأمام خيارات حقيقية بلا إكراه وضغط. هذا هو الفارق الكبير بين التجول في مكتبة في بيروت أو لندن أو الولايات المتحدة، وبين الكثير من المكتبات في دول عربية شتى بما فيها الكويت. الحرية بحث دائم لدى البشر. متى ما تحولت أيديولوجية أو تفسيراً دينياً أو قوانين قمعية إلى مؤسسة تتحكم بالناس وتقرر عنهم خياراتهم الشخصية والفكرية والسلوكية بدأت حال التمرد وبدأ الرفض الذي سوف ينهيها مع الوقت، هكذا يبدأ التغيير. إن التاريخ مليء بهذه الحكايات. ليتكم توفروا جهودكم لشيء أفضل فيه منفعة للناس وللتنمية.