جلبة في صالة التحرير، قهقهة عالية بين أروقة مكاتب الزملاء في الجريدة، جلابية توشك أن تكون كويتية وما هي بكويتية، تماماً كما هي لهجته إن أراد أن “يكوّتها” فتخرج من فمه عرجاء من غير سوء: شغبارك، أي شخبارك… شفيك يا معوّت! فأصحح له: يا معوّد (بالحاء المربوطة يا رضى)، فيقهقه: يا عم عدّيها بالتاء المزبوطة، الحاء تقال للحمير والتاء للتأنيث… وغير ذلك من المفردات الكويتية التي كان يشرّبها بلهجته الأم، التي لا يتنازل عنها إلا لدواعي الضحك والمزاح.
أين أنت يا معوت؟ هل مللت منا فقررت هجرنا وهجر معشوقتك “اللغة الفصحى”، بحروف جرها التي كنتَ تقف سداً منيعاً ضد من يتجاهل تأثيرها (مش عارف ليه أخونا المحرر الألمعي بينصب الكلمة وهيه مجرورة من ودانها؟ هو حرف “الباء” شوية في البلد يا جدعان؟)… هل زهقت من “الأفعال المتعدية” على أملاك الغير، كما تصفها (دي أفعال شغالة نصب تك تك)… من سيعول بعدك “واو الجماعة” ومن سيثأر لـ”الواو المقطوعة من شجرة” كبدي عليها؟ من مثلك سيعيد ترتيب فوضى الأخبار و”يدسّكها” بشقاوة وحرفية، ويستخرج من جوفها مانشيتات تؤكل بأصابع اليد الواحدة؟
من بعدك سيهاتفني ساخراً من صياغة (المحرر إياه، في تلك الجريدة): “بزمتك يا بو سلمان ده يتقال عنه صياغة خبر؟ يكتبه محرر بقاله أكتر من خمستعشر سنة في الصحافة؟ ده للعشماوي على طول هو والخبر بتاعه… من سيهاتفني يا رضى معلقاً على مقالتي قبل النشر، إما قادحاً: “كنتَ استلفت ملح من جيرانكم إزا ما كانش عندك ملح تحطه على مقالة النهارده”، أو مادحاً: “أيوه كده اعدل لي دماغي، بحبك يا وشيحي وأنت برازيلي ترقّص الكلمات والجمل على الكتف والصدر، بحب السامبا”…
ياه يا رضى، يااااه، كم هو مؤلم فراق الأحبة، الفوضويين منهم تحديداً… عزاؤنا الحار ليوسف وأشقائه ووالدته، ولكل أهلك ومحبيك وما أكثرهم، ولزملائك في كل وسائل الإعلام التي تنقلت بينها… وها أناذا أكتب “رضى” بالألف المقصورة كما تريدها أنت، لا الممدودة كما كنا نغيظك.
آلمتنا يا رجل… فإلى جنات الخلد أبا يوسف.
هل هناك خداع أكثر من هذا؟!
هناك كما حذرنا مرارا وتكرارا مشروع يهدف الى تدمير الكويت ونشر الفوضى بين ربوعها كي تلحق بركاب الدول غير المستقرة في المنطقة، ومشروع مدمر كهذا لا تقوم به مخلوقات من كواكب اخرى خضراء اللون ذات ذيل طويل، بل شخوص وقوى تعيش بيننا وتدعي الاخلاص والوطنية والمحافظة على الدستور ومحاربة الفساد حالها حال الزعيم «الوطني» اللبناني ميشال سماحة، وكم ميشال سماحة بيننا نرى صورهم ونقرأ اقوالهم الخادعة كل يوم.
***
وضمن مخطط الخداع ان تهدم الكويت تحت راية الحفاظ على الكويت! وذلك عبر مواقف واصدار تشريعات دمرت بحق الكويت وطفشت الاستثمارات بعيدا عنها كحال تشريع الـ B.O.T، منع حقول الشمال، منع الداو، منع تحديث اسطول «الكويتية»، منع دعم الشركات المساهمة الكويتية، رفع اسعار الاراضي على الشباب بسبب تشريع الاراضي العامة.. الخ، مما جعلنا الدولة الوحيدة في الخليج والعالم التي تعتمد ميزانيتها العامة على مورد النفط الناضب عاجلا او آجلا، في وقت يرقب شعبنا ما يحدث في الدول الخليجية الاخرى التي تسبب عدم وجود مثل تلك الشريعات فيها الى تحول بلدانهم الى محج للاستثمار والسياحة والمراكز المالية.
***
وضمن سياسة الخداع ان يهدم الدستور بحجة الحفاظ على الدستور! فيفرغ من معانيه السمحة عبر السماح بالاستجوابات الكيدية التي تشغل البلد واعتراضهم في الوقت ذاته على استخدام الحكومة لوسائلها «الدستورية» المتاحة مثل التأجيل واللجوء للمحكمة الدستورية والاحالة للجنة التشريعية، ثم «نسف» الدستور بأكمله عبر المطالبة بالحكومة الشعبية او البرلمانية التي لم نر مثلها في الدساتير الجديدة لمصر وتونس وليبيا التي تعطي رئيس الدولة ـ لا البرلمان ـ حق اختيار رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة، ومثل ذلك مشروعا الدائرة الواحدة وقيام الاحزاب غير الدستوريين، فما الذي ابقاه حاملو راية «إلا الدستور» من الدستور بعد كل تلك التعديلات.. غير الدستورية؟! وهل اصبح الأتباع من الشباب بهذه السذاجة فيقال لهم تارة ان تعديل الدستور خيانة وطنية وتارة أخرى قمة في الوطنية؟!
***
ويتم الحديث الكاذب والمخادع عن محاربة الفساد والاستيلاء على المال العام، وأول مبادئ محاربة الفساد والقضاء على حرامية المال العام في العالم اجمع هو تعزيز هيبة السلطة وإجلال القضاء وأحكام المحاكم واحترام رجال الامن لدينا، يمر مشروع محاربة الفساد المخادع بالهجوم على هيبة السلطة والتشكيك في القضاء والاعتداء على رجال الامن وعدم اصدار تشريعات الذمة المالية من قبل من يدعون الطهارة وهم من تحولوا وبسبب عملهم التشريعي والسياسي من موظفين حكوميين صغار الى اكبر الاثرياء في البلد والمنطقة.
***
وضمن حديثهم المخادع مطالبتهم بالحفاظ على «الحياة الديموقراطية» وما لا يقولونه ان افعالهم التي هي اهم كثيرا من اقوالهم تهدم اهم المبادئ التي تقوم عليها الديموقراطية وهي الايمان بـ «الرأي والرأي الآخر»، فما نراه هو تسفيه وتشكيك وتحقير للرأي الآخر مما يحيل ما يدعون إليه الى ديكتاتورية قمعية مستترة تنتظر الفرصة كي تتحول الى ديكتاتورية معلنة تكشف عن وجهها القمعي القبيح مع اللحظة الاولى للتحول الى مشاريع الحكومة الشعبية والحزبية والدائرة الواحدة التي سيكون أولى ضحاياها.. من يدعون إليها هذه الايام..! يا للذكاء!
***
آخر محطة: ضمن مشروع الخداع الكبير الهادف للتدمير ان تدعي قولا الايمان بدولة المؤسسات وانت تعرقل بعملك اعمال السلطة التنفيذية وتوقف اعمال السلطة التشريعية برفضك الحضور او الاستقالة وتطعن بأحكام المحكمة الدستورية لأسباب.. لم تعد خافية..! وخووش ايمان بدولة المؤسسات..
او ما تبقى منها!
البحث عن المعنى
كانت “فيزا” الهجرة إلى الولايات المتحدة جاهزةً لـ”فكتور فرانكل” فهو طبيب نفسي مشهور وأستاذ جامعي، لكنه أيضاً يهودي نمساوي، وجيوش هتلر تدق أبواب النمسا، ولم يكن سراً ماذا يعني أن تكون يهودياً تحت الاحتلال النازي. لكن فكتور آثر التضحية ورفض الهجرة إلى أميركا لأن والديه المسنيين كانا بحاجة إلى رعايته، وكانت النتيجة المحتومة، فقد أسره النازيون ونُقِل إلى معسكر “أوشفيتس” الشهير، وهناك إما أن تعمل كعبد في بناء سكك الحديد، وهذا يفترض أن تكون بكامل صحتك الجسدية، وإلا فغرف الغاز في انتظارك.
يجتهد ويتظاهر السجناء مهما كانت حالتهم الجسدية مزرية، بأنهم بصحة جيدة حتى لا يرحلوا إلى غرف الغاز، فإصابة “الغرغرينا” بأصابع الأقدام بسبب العمل في إزاحة الثلوج، وشيوع مرض التيفوئيد بين السجناء كلها مسائل عادية طالما لم يلاحظها “الفورمان” ويبلغ عنها الحراس الألمان. “الفورمانيه” هم من اليهود ضعاف النفوس الذين اختاروا أن يعملوا بتلك الوظيفة كعملاء للنازيين مقابل بعض الميزات كالإبقاء على حياتهم إضافة إلى ميزات مادية، وهنا يفرق فكتور بين الخنازير والقديسين في أنواع البشر، فالخنازير هم الذين فقدوا الأمل بالمستقبل، واستسلموا لواقع القهر في المعسكر وارتضوا أن يعيشوا كطفيليات وجواسيس للنازيين على عكس أصحاب الهمم العالية للقديسين.
يبدأ الطبيب فكتور بتشريح النفس البشرية، فعنده الحياة ليست بلا معنى مهما كانت قسوة الظروف، وتحت وطأة العذاب في المعسكر تهمش بل وتتلاشى الضرورات الإنسانية، فالجنس ليس له مكان، فغريزة البٍقاء تظل هي المهيمنة، وحتى تبقى وتتحدى الواقع المر، لابد من الأمل، والأمل هو الحب والإيمان بغد أفضل. السجناء الذين فقدوا هذا تهاووا بسرعة واستسلموا للموت، بينما ظل فكتور يقاوم بالعمل بمساعدة وعلاج المرَضى نفسياً وجسدياً بالمعتقل وسلاحه حلمه بأن يلقى زوجته يوماً ما.
بعد التحرير، وضع فكتور أسس علم نفس العلاج بالأمل والعمل لكسر تمحور الإنسان حول ذاته، أسماه logo therapy، فهناك دائماً معنى للوجود الإنساني، وبهذا يقف فكتور على طرف نقيض من الفلسفات العدمية، التي لا ترى أي معنى في الوجود، وأن وجودنا هو صدفة القدر، والحياة مجرد عبث لا معنى له. “اللوغو ثرابي” ينبش معنى الوجود في النفس الإنسانية ويحرك الصراع الدائم في الذات البشرية لإقامة التوازن فيها وليس تركها لتحطم ذاتها. الفراغ هو كارثة تصيب النفس الإنسانية، ويذكرنا فكتور بمرض الأحد العصبي sunday neurosis في الولايات المتحدة. حين يكون الفراغ والبطالة من نتائج أيام العطل (ملاحظة لم يدر فكتور عن حالتنا بالكويت)، هذا الفراغ الروحي يسبب الاكتئاب والملل النفسيين، وهنا ندخل بالدائرة المفرغة بالعلاج عن طريق المخدرات والمسكنات النفسية، أو حين يترصد الفارغون لأحاديث مثل: ماذا يفعل فلان؟ وماذا قالت فلانة؟ كما هو الحال عندنا، بينما لب المرض يكمن في عمق الذات، اسمه الفراغ الوجودي existential vacuum، هذا الخلاء الوجودي يولد العدوانية وإدمان المخدرات، ويمضي فكتور مقرراً أن للإنسان مهمة في هذه الدنيا وعليه أن يحققها حسب ظروفه، فلا مكان لافتراض الشروط التي يتوهم البشر أنها تحد من قدراتهم الذاتية، وإنما هي القرارات الحاسمة هي التي يعول عليها.
عاش فكتور طويلاً ودرس بالجامعات الأميركية ومارس العلاج النفسي حتى أيامه الأخيرة وتوفي عام 1997 تاركاً لنا، مهما اختلف معه الكثيرون في معنى الوجود، فكراً حياً يزودنا بالأمل ومعنى التضحية وحب الإنسانية.
عنوان الكتاب “بحث الإنسان عن المعنىman’ s search for meaning
تجربتي مع المفتش
مررت قبل عشرين عاما تقريبا بتجربة طريفة لا بأس من ذكرها كمدخل لموضوع المقال. زار مكاتب شركة أمتلكها وأديرها أحد مفتشي البلدية، طالبا الكشف على المواد الغذائية التي نتعامل بها، والتأكد من صلاحيتها للاستهلاك البشري، وطريقة تخزينها وظروف العمالة المشرفة عليها وحيازتهم لشهادات لياقة صحية. وهنا عرضت مصاحبته في جولته، فقبل على مضض، فأخذته لكل المخازن بسيارتي وأطلعته على أماكن لم يكن يعتقد أن فيها مواد غذائية، وطلبت من العمال إحضار رزم وكراتين من تحت الصفوف، ليكشف عليها واحدة واحدة، كما طلبت منهم إبراز هوياتهم وشهاداتهم الصحية ومطابقتها بكشف العاملين، واطلعته على ظروف العمل والتخزين، وسهلت مهمته لأقصى درجة بحيث خامره الشك في نواياي، فشكرني بتردد، وقال إنه عادة ما يقوم بالتفتيش منفردا، ومصاحبتي له حيّرته قليلا، ولم يقل إنني شكّكته في نواياي! وهنا طلبت منه مصاحبتي لمكتبي فوافق، وهناك شكرته وقلت له: ليس في الأمر شيء مريب، فلست أكثر أمانة من غيري ولا أدعي شرفا قد لا أستحقه، ولكن المسألة تتعلق بالمنطق، فقد صحبتك تشجيعا مني لك على أداء عملك، بعد أن أصبح «السوق» يعجّ بكل أفّاق وغشاش أثيم، وأن المخلصين في أعمالهم في تضاؤل مستمر، الغلبة ستكون ربما للحرامي والغشاش في نهاية الأمر، ومن هنا كان ترحيبي به ومساعدتي له في إنجاز مهمته! ففتح فمه غير مدرك ما أرمي إليه بكلامي، فاستطردت قائلا: إن صحتي وصحة أسرتي في يده، وجميعنا نعتمد في صلاحية ما نأكل على مدى إخلاصه في عمله ونظافة يده برفضه لأي رشى أو إغراءات، فأنا أبيع ربما 20 أو 30 صنفا من المواد الغذائية، ولكني أستهلك أضعاف أضعافها من الأصناف الأخرى التي يستوردها ويخزنها ويبيعها غيري! فإن أنا نجحت في دفع رشوة له أو لغيره من المراقبين، ونجحت في تمرير مواد غذائية فاقدة الصلاحية، فإنني حتما سأجني بعضا من المال، ولكن ما هو الضمان من أن غيره من المفتشين لن يحذوا حذوه ويتقاضوا الرشى نفسها من تجار مواد غذائية آخرين ومن اصحاب مطاعم وفنادق ومخابز وغيرها، وبالتالي، فإن ربحت بعض المال هنا، فسأخسر مالا وصحة أكثر هناك! وبالتالي من الضروري تشجيعه، لأنه الضمان الوحيد الذي أعرفه في حمايتي من مواد الآخرين التالفة، وهو «عيني الغذائية» الساهرة! كما أن قيامه بدوره بشكل جيد ضمان له شخصيا ولأسرته! فهو قد يقبل رشوة مني ويسعد بها، إن مرر ووافق على ترخيص بضائع تالفة لي، ولكن ما الذي يضمن له أنه لن يتناول، ربما في اليوم نفسه، المواد الغذائية والأطعمة الفاسدة نفسها التي قبل مبلغا سخيفا للموافقة عليها؟ وما يعنيه ذلك من خسارة مادية وصحية له ولأسرته؟ وبالتالي المسألة ليست أمانة بقدر ما هي منطق عملي! وليس مهما هنا ذكر رد فعل المفتش.
ما نود التطرق إليه من هذه المقدمة الطويلة يتعلق بالحملة الشرسة التي شنتها القبس منذ فترة على تجار ومستوردي المواد الغذائية، وربما لا تزال الحملة مستمرة، والتي صورت فيها البلد كأنه مليء بالحرامية والأفّاقين، وقد تكون هذه هي الحال، ولكن المؤلم أن الصالح عادة ما يذهب مع الطالح، وقد يأتي يوم يصبح الكل سواسية في الغش، ونخسر جميعا.
وإلى مقال الغد.
أحمد الصراف
[email protected]
www.kalamanas.com
الحكومات تذهب… وتبقى الشعوب
طرح الكاتب وحيد عبدالمجيد، في صحيفة «الاتحاد» الإماراتية، مقالاً عميق المعاني بعنوان: «ديمقراطية عربية بدون ثورات»، ولعل الكاتب أخضع التجربة المغربية تحت المجهر، انطلاقاً من الاستفتاء على الدستور المغربي ليقول (إن التغيير ممكن عبر الإصلاح التدريجي، وإن الانتفاضات والثورات الشعبية الجذرية ليست الطريق الوحيد للتحول نحو الديمقراطية في العالم العربي)، لكن الكاتب قال أيضاً، استناداً على التجربة المغربية، إن العاهل المغربي (تفاعل) مع المطالب الديمقراطية التي طرحها بعض الشباب عبر «الإنترنت»، حيث اعتبر الكاتب مطالبات الشباب جاءت اقتداءً بمجريات الحركات الشبابية كما هو الحال في دول المطالبة بالحقوق المشروعة، والموسومة بمسمى (الربيع العربي).
لقد اتجه الكثير من المفكرين والكتاب إلى بحث أساس ومنطلقات المد الشبابي العربي الجديد المطالب بالتحول نحو الديمقراطية… من قاعدة أن الحكومات تسقط… وتعيش الشعوب، حتى أن الكاتب وحيد عبدالمجيد، بطرحه للنموذج المغربي أشار إلى هذه الجزئية، بقوله (إن تحول هذا النمط المغربي إلى نموذج عربي يتطلب استمرار المنهج الإصلاحي على مختلف المستويات، من الدستور والسياسة إلى المجتمع والاقتصاد، وفتح أبواب المؤسسات أمام الشباب الذي مازال بعضه غاضباً حتى لا يبقى الشارع ملجأه! إنه نموذج التحول الديمقراطي بدون ثورات، ذلك الذي يمكن للمغرب أن يقدمه في الفترة المقبلة». (انتهى الاقتباس).
ولعلني أنقل للقارئ الكريم أيضاً رؤية الكاتب شاكر النابلسي (منتدى الحوار المتمدن)، الذي ناقش الكثير من الأفكار التي وردت في كتاب أستاذ علم الاجتماع في جامعة البحرين، الباحث والمفكر البحريني باقر سلمان النجار، الذي حاز كتابه «الديمقراطية العصية في الخليج العربي» على جائزة الشيخ زايد آل نهيان للكتاب، فالنابلسي طرح سؤالاً مهماً: «هل الديمقراطية في الخليج العربي عصيّة حقاً؟»، ليسترسل في القول إننا ندرك إشكالية الديمقراطية في الخليج العربي خاصة فهي إشكالية اجتماعية، قبل أن تكون إشكالية سياسية! بمعنى أن تحقيق الديمقراطية في الخليج، أو في أي بلد على سطح هذه الكرة، لن يتم إلا إذا شعر جميع المواطنين دون استثناء، أن هذا الوطن هو وطن الجميع، وهو مُلك الجميع، وليس وطن أو مُلك فئة معينة من الناس، وأن دولة الوطن، هي دولة الجميع، وليست دولة فئة معينة من الناس، وهذا هو الأساس الذي يقوم عليه المجتمع المدني الحديث، ويقضي هذا الأساس، إقامة نوع من الاتفاق أو «العقد الاجتماعي»، الذي يساعد الشعب على الانتظام في دولة واحدة، وبذا يكون المجتمع المدني بكل بساطة – كما يقول عالم الاجتماع العراقي فالح عبدالجبار في كتابه «المجتمع المدني في عراق ما بعد الحرب»، ص 11» – «هو كل تجمع بشري خرج من حالة الطبيعة (الفطرية) إلى الحالة المدنية، التي تتمثل بوجود هيئة سياسية قائمة على اتفاق تعاقدي… وبذا، فإن المجتمع المدني هو المجتمع الذي يُعبِّر عن كل واحد فيه، وهو كلٌ يضمُ المجتمع والدولة معاً. (انتهى الاقتباس).
ولكن، ما هو المقدم في الولاء، هل الولاء للأوطان، أم للحكومات؟ وخصوصاً في ظل وجود من يروّج لفكرة أن (من لا يحب الحكومة، فهو خائن للوطن) مع الفارق الكبير بين الحكومات والأوطان… الولاء للأوطان قطعاً، وليس للحكومات التي تُستبدل وتبقى الأوطان والشعوب.
وفي هذا المحور، يرى الباحث عبدالفتاح ماضي (منتدى المعرفة) في بحثه القيم: «بناء النظم الديمقراطية العربية»، أن من أهم أولويات ومطالب الحراك الشعبي العربي الراهن التي تحتاج إلى معالجات سياسية ودستورية مسألتا الإرث الاستبدادي الذي خلفته نظم حكم الفرد، والحالة الثورية وتصور البعض أنه بالإمكان تحقيق كل شيء عبر النزول إلى الشارع… هذا بالطبع بجانب إشكالية الهُوية والمرجعية العليا للنظام السياسي، وأوجه الفساد والإفساد، وضعف النخب السياسية، ودور المؤسسة العسكرية، وعدم ثقة الناس في السياسة والسياسيين، إلا أن مقابل هذا الطرح، يرى كاتب آخر هو باسم الجسر في مقالته: «(الطريق الصعب إلى الديمقراطية – صحيفة «الشرق الأوسط» – 20 يوليو/ تموز 2011)، فالأخير يرى أنه يمكن أن تنطلق جهود معالجة الإرث الاستبدادي من تعريف الديمقراطية من حيث هي ترتيبات مؤسسية وآليات لضمان الحكم الصالح عن طريق تقييد سلطة الحكام وتعزيز مشاركة الجماهير في الشأن العام.
ويأتي على رأس هذه الآليات والترتيبات استقلال القضاء عن السلطتين التنفيذية والتشريعية استقلالاً تاماً، وقيامه بدور الرقابة القضائية في تقييد سلطة الحكام من خلال دور مجلس الدولة والقضاء الإداري في الرقابة على مشروعية أعمال السلطة التنفيذية ومنع تعسف الإدارة في تنفيذ القوانين، ودور المحكمة الدستورية العليا في الرقابة على دستورية القوانين للحيلولة دون مخالفة البرلمان نصوص الدستور.
أما ثاني هذه الترتيبات فهو تجنب النظم الرئاسية على النمط الأميركي، فهي لا تصلح للدول العربية نظراً للإرث الفردي والخوف من تشكيل مراكز نفوذ جديدة حول الرئيس الجديد. ولهذا فقد يكون تبني النظام شبه الرئاسي هو الأنسب نظراً لحاجة هذه الدول إلى انتقال سلمي واضح للسلطة لرئيس منتخب، وحاجتها، في الوقت ذاته، إلى تقسيم السلطة التنفيذية بين الرئيس المنتخب والوزارة التي يجب أن يشكلها حزب (أو أحزاب) الأغلبية في البرلمان الذي يقوم بدوره بمراقبة أعمال الوزارة، ومع تحديد واضح لصلاحيات كلٍّ من الرئيس والوزارة.
ويطرح الجسر محوراً مهماً يتعلق بوسائل تمكين الشباب، والمواطنين بشكل عام، من ممارسة السلطة، عن طريق تبني النظم الجديدة بعض مظاهر الديمقراطية، فبجانب استخدام أسلوب الاستفتاء الشعبي مع وضع الضمانات اللازمة لحصره في القضايا الجوهرية ومنع إساءة استخدامه لتجاوز دور البرلمان، يمكن تبني الاقتراح الشعبي الذي يسمح للناخبين باقتراح مشروع قانون ورفعه للبرلمان لمناقشته فإذا تم إقراره أو رفضه، يعرض على الشعب لاستفتائه فيه، كما الحال في سويسرا وكندا.
الجانب المهم، كخلاصة، هو أن الديمقراطية الحقيقية تسهم في إعادة ثقة الناس بالسياسة، وفي دفع المواطنين إلى الاهتمام بالشأن العام وزرع الأمل فيهم بإمكانية تغيير السياسات والأشخاص، بجانب تحسين أداء الحكام ونوعية الحكم الديمقراطي… وخلاصة الخلاصة: العدالة الإجتماعية التي هي ضالة الشعوب المحرومة منها… فالحكومات المستبدة ستسقط حتماً، أما الشعوب فهي الباقية وستحقق تطلعاتها.
الأغلبية بلا سقف!
مع مرور الوقت وعدم حسم الأمور سياسيا ودستوريا لقضية الدوائر الانتخابية، ازدادت الساحة السياسية حرارة واقتربت من درجة الغليان.
بدأت الحكومة ورموزها تفقد ثقة الأغلبية التي كسبتها، وأصبحنا نسمع عبارات السخط والتهديد والوعيد تخرج من أفواه المعارضة باتجاه الحكومة ورئيسها، منذرة بتحول خطير في علاقة الأغلبية وسمو الرئيس!
فالمعارضة متمسكة بالنظام الانتخابي، وترفض أي تغيير عليه، وتعتبره بمثابة الانقضاض على الدستور وإرادة الأمة من قوى الفساد، التي بدأت تأثر على خيارات الحكومة وقراراتها، مما جعل الخطاب السياسي للأغلبية المعارضة من دون سقف.
من يعرف المعارضة وشخوصها يعلم جيدا أنهم يقرنون القول بالفعل، ولا يرتضون بالصفقات السياسية مقابل التنازل عما يؤمنون به، ولهم شعبية كاسحة في الشارع الكويتي.
وكان على الحكومة اتباع صريح الدستور والابتعاد عن المشتبهات الدستورية، خصوصا أن المحكمة الدستورية نفسها ـ أبطلت مجلس 2012 لسبب واحد فقط، وهو وبالتحديد بطلان الإجراءات ولم تتطرق إلى مسألة بطلان الدوائر الانتخابية رغم ادعاء الخصوم بها، الأغلبية أعلنت خصومتها للحكومة الحالية كاملة، وعقدت العزم على التصعيد بالمظاهرات والاعتصامات، ولن يقنعها القليل (مجلس الأمة) الذي حرمت منه، ولن ترضى إلا بالكثير (حكومة برلمانية)، وقد تخسر الحكومة الكثير من مكاسبها لأنها لم تتعامل بجدية وديموقراطية مع الشعب وممثليه.
بل هم السنوسي وفيصل الثاني وأنتم معمر وصدام معاً!
كان الملك ادريس السنوسي ملك ليبيا والملك فيصل الثاني ملك العراق أقرب للملائكة التي تمشي على الأرض فلم يعدما أو يسجنا أو يقمعا شعوبهما ومع ذلك استطاع ثنائي «الثورجية والمؤامرات الخارجية» ان يشوه سمعتهما وأن يثير المغرر بهم عليهما حتى قال المتظاهرون الليبيون «ابليس ولا ادريس» فأتاهم ابليس على شكل الثوري معمر القذافي الذي هو أشبه ما يكون ببعض ثوريينا الكويتيين هذه الأيام، وندمت شعوبهما على تفريطهم بهما وبكت دما عليهما عندما لا ينفع الندم، ونشهد في الكويت هذه الأيام أمرا مشابها وتفعيلا لثنائية الثورجية والمؤامرات الخارجية، والتاريخ ـ كما يقال ـ يعيد نفسه، فلنحذر ولنفشل المؤامرة قبل ان تنضج حتى لا نندم بعد فوات الأوان.
***
ان حكام الكويت الرحماء بشعوبهم أمثال الشيوخ الأجلاء عبدالله السالم وصباح السالم وجابر الأحمد وسعد العبدالله وصباح الأحمد ونواف الأحمد ومن سيأتي بعدهم من أسرة لم نر على يدها إلا كل الخير، هم أشبه ـ ان جاز التشبيه ـ بالملوك الرحماء السالف ذكرهم، اما المحرضون والمؤججون والغاضبون والحانقون والمخادعون من أصحاب الأجندات الخارجية فهم أقرب الناس لمعمر وصدام معا مع فارق ان معمر وصدام بدآ حياتهما السياسية بدعاوى الرحمة والرأفة ثم كشفا عن أنيابهما لاحقا، اما أنتم فقد أظهرتم أنياب القمع والكراهية والحقد قبل ان تصلوا لمواقع المسؤولية فكيف اذا ما وصلتم؟!
***
ومن يطلب ان نجربكم لأربع سنوات نقول ان المجرب لا يجرب، فقد جربنا بعضكم لأربعين عاما فوجدنا ان الكويت لم تبدأ في الانحدار إلا مع دخوله حياتنا السياسية وافشائه ثقافة الغضب والتشكيك الدائمين، وجربنا البعض الآخر لعشرين عاما فلم نر إلا الحقد الشديد والكراهية وضرب الوحدة الوطنية المتباكى عليها عبر استقصاد الناس والمسؤولين على «الهوية» لا على «القضية» مما خلق ردة فعل قوية يشتكي منها البعض ولا يسأل عن فاعلها والمتسبب الحقيقي فيها.
***
كما جُربتم أخيرا خلال الأشهر الأربعة الأخيرة فلا نرى إلا الحنق والضيق الشديد بالرأي الآخر والحجر عليه والتعدي على الآخرين، ولو سلمتم الحكم ليوم واحد ـ لا أربع سنوات طوال ـ لدخلتم على معارضيكم بالسلاح في بيوتهم ونصبتم المشانق في الساحات العامة ولفتحتم أبواب السجون واسعة ولملأتم أرض الكويت بمقابر خصومكم الجماعية ولارتحل عن الكويت أغلب شعبها ورجال أعمالها كما حدث إبان غزو صاحبكم صدام ولحل محلهم غربان البين ينعقون على اطلالها ومبانيها الخربة ولما ابقيتم في ميزانيتها العامة فلسا أحمر فهذا ديدن الثورجية أمثالكم في كل مكان وزمان ولنا عودة.
***
آخر محطة: (1) هل نذكركم هذه الأيام بمن زار صدام عام 1990، وهل نذكركم بمن «استيقظ» ربيع ذلك العام المشؤوم وأنزل المغرر بهم للشوارع مما أعطى الطاغية الحجة للاجتياح حتى أعلن ان سبب الغزو هو «الثورة التي حدثت بالكويت»،فهل المراد ان نخدع بكم اليوم كما خدعنا بكم ذلك اليوم؟
(2) وهل نذكر شعبنا بأن علو صوتكم وشتائمكم وطول لسانكم لم يستخدم قط لمصلحة الكويت إبان حربنا الشرسة ضد فيالق صدام طوال اثني عشر عاما (1991 ـ 2003)، فأين كنتم طوال تلك الفترة ومواقع الفضائيات واليوتيوب شاهدة على أنكم لم توجهوا كلمة نابية واحدة تجاه الذئب الطامع القابع بالشمال بل ساهمتم بفعالية شديدة في إفشال مشروع حقول الشمال الذي يوفر الحماية الاستراتيجية للكويت وشعب الكويت، واذا لم تكونوا تعملون لمصلحة الكويت وشعب الكويت فلمصلحة من إذن كل هذا الحراك الذي نراهن على وعي الشعب الكويتي لإفشاله؟!
زرق العيون
ابتلي المسلمون، والعرب بذات الذات، بالكثير من المصائب والبلاوي، ولكن أشد بلاويهم سوءاً الفتاوى الدينية، التي أصبح إصدارها هم كل صبي دين وكهل تدين! وكلما كانت الفتوى غريبة كان حظها في الانتشار أكبر وصداها في القنوات الفضائية والصحف والإذاعات أعلى، ليصبح مصدرها نجماً وعلماً دينياً، وليمدد بفعلته من فترة ضحك العالم علينا، وسخريته من طريقة تفكيرنا! وكان آخر تلك الفتاوى الغريبة والمستهجنة، التي لا يزال يدور حولها نقاش واختلاف، وشد وجذب كبيران، على الرغم من كل ما تضمنته من سخف، تلك التي تعلقت بحث شباب وكهول المسلمين، من المقتدرين مادياً، على زيارة مخيمات اللاجئين السوريين في الأردن ولبنان وتركيا والجزائر وغيرها، و«نجدة» من فيها بالزواج من الفتيات السوريات، لستر أعراضهن! وبصرف النظر عن حقيقة نية وهدف رجل الدين الذي أصدر مثل هذه الفتاوى، إلا أنه من الواضح أن النهاية لن تكون في مصلحة أولئك الفتيات، فالمسألة، كما سنبين لاحقاً، لا علاقة لها بستر الأعراض ولا بتقديم العون والمساعدة، بل الهدف جنسي بحت، كما ذكرت الزميلة دلع المفتي، من أن هذه الحملات ذكورية استغلالية قبيحة، غلافها الستر وباطنها النخاسة المقنعة بعناوين فضفاضة، مثل الزواج الشرعي، ورفع المعاناة، وأن هكذا يتراكض «المجاهدون» لنصرة الشعب السوري، بسبي نسائه تحت ستار الزواج من فتيات سوريات، بعضهن قاصرات، بمهور بخسة تدفع للأب المكلوم الذي لا يملك قوت أطفاله، فيزوج ابنته طمعاً بالستر.
حجة هؤلاء المفتين، ومن تصدى لتطبيق فتاواهم، أن هؤلاء من نساء المسلمين ويجب سترهن، وأن المسألة شرعية بحتة ولا إكراه فيها، وتتم على سنة الله ورسوله، وأن ما يحدث الآن في سوريا سبق أن حدث على نطاق أوسع بكثير في كوسوفو وقبلها في البوسنة وبعدها في الشيشان! ولكن الغريب أن الستر والخوف كانا على المرأة أو الفتاة الجميلة، فمن له الخيار لن يختار غيرها، على الرغم من أن الأقل جمالاً أحق بالمساعدة! كما أن التنادي والتكاتف لنصرة الشعب السوري اتجها نحو فتياته ولم يتجها، إن كانا صادقين، لشبابه، فلم نسمع بفتوى تطالب آباء الفتيات العربيات المقتدرات بتزويج بناتهم بشباب مخيمات اللاجئين السوريين! فلمَ يقتصر العون على النساء ويترك الشباب لمصيرهم، علماً بأن نسبة العنوسة في دول «العون» هي الأعلى في العالم؟ كما أن هذه الفتاوى جنسية بحتة ولا علاقة لها بالدين ولا بالتدين ولا بالقربى وكسب الأجر، والدليل على ذلك أن نساء مناطق عديدة من السودان ودارفور والصومال، وجميعهن مسلمات صحيحات الإسلام، تعرضن منذ عشرات السنين لأبشع أنواع الاضطهاد والتشريد والاغتصاب والتعذيب والتشويه والقتل والموت جوعاً، ومع هذا لم يتبرع شيخ ولا صبي دين، من نجوم القنوات الفضائية، بإصدار فتوى بضرورة قيام «شباب وكهول» الدول المقتدرة بزيارة مخيمات لاجئيهم، وما أكثرها، والاقتران بفتياتهم! هل لأنهن لا يمتلكن البشرة الشقراء ولا العيون الزرق، كفتيات سوريا وكوسوفو والشيشان والبوسنة والهرسك؟ اللعنة، كم أنتم منافقون.
أحمد الصراف
[email protected]
www.kalamanas.com
جربناكم جربونا
جربناكم كثيراً جربونا قليلاً، هذا ما صرح به النائب مسلم البراك في ندوة التيار التقدمي، ففحوى خطابه أن الدولة دفعت ثمناً كبيراً مدة خمسين عاماً في استئثار أسرة الصباح للسلطة، فماذا يمنع أن “تكون الأمة مصدر السلطات” شكلاً وموضوعاً مدة أربع سنوات؟ وهي عمر الفصل التشريعي، وماذا نخسر في هذه التجربة بعد أن خسرنا الكثير في تجربة الخمسين عاماً من الحكم الدستوري، تخللها أكثر من مرة سنوات قطيعة للدستور مثل عام تزوير الانتخابات 67، وحل المجلس عام 76، وعام 86؟ وفي بقية العمر الدستوري ظلت أسرة الحكم تمسك بمفاصل الدولة، وكان (ومازال) هناك “حكومة الحكومة” (وزراء الأسرة) الذين لهم حق النقض “الفيتو” على أي قرار داخل مجلس الوزراء. البراك يطالب صراحة بالإمارة الدستورية، التي لا تكون بغير رئيس وزراء شعبي ليس له الهالة الصباحية، ويدعو كذلك إلى كسر احتكار وزارات “السيادة” للأسرة. في المقابل، هناك من يقول إننا جربناكم “أنتم مجالس النواب”، وكانت كارثة على حريات وحقوق البشر وعلى مشوار التنمية، فقد خرقتم أهم المعايير الدستورية، فأنتم من وضع شرط الدين الإسلامي لمنح الجنسية عام 81، وأنتم من عزلتم الجنسين في مقاعد الدراسة الجامعية، وأنتم من خنق حياة الفكر والثقافة بالدولة حين تسلط التيار الديني على الحياة الاجتماعية، وأصبح شعار الفكر وحرية التعبير والنقد “الأصل في الأمور المنع لا الإباحة”، والمسرح ومعارض الكتاب المزرية تنهض دليلاً على ذلك، حتى أصبحت الدولة خاوية من المعنى، خالية من أي لمسة جمال. وأنتم من وقف ضد مشاريع التنمية والتطوير مثل حقول الشمال، أو المصفاة الرابعة، وخلقتم أجواء من الرعب المالي الذي “طفش” كل أحلام الاستثمار والتطوير. لن أزيد في عرض الكثير من ردود أصحاب هذا الرأي، فقد قال فيه عبداللطيف الدعيج، وإيمان البداح، وإقبال الأحمد على سبيل المثال، ما لم يقله مالك في الخمر. وأهم من كل ذلك أن الرؤوس الكبيرة لممثلي الشعب أقامت الحواجز الطائفية في المجتمع الكويتي، وشككت ظلماً وتعالياً عنصرياً بولاء الشيعة للدولة، وكأنهم ليسوا من أهل البلد، ولم يكن لهم دور كبير في تحقيق هويته الوطنية. هناك أيضاً كثيرون، يرتدي بعضهم أثواب “الانتلجنسيا” (يعني أهل فكر) لا يترددون في إثارة ذلك السؤال الخاوي حين تنتصر مثلاً لمسلم البراك أو فيصل المسلم في قضية الإيداعات مثلاً: هل تريد أن يحكمك مسلم البراك أو أحمد السعدون! أرفض مثل هذا الرأي، فالحكم الدستوري الصحيح لا يعني أن يحكم البراك أو السعدون، ولا يعني أن تستبد الأغلبية المتزمتة في طرحها وتهدم أمن الدولة بعد أن أحرقت حياتنا الاجتماعية، ففي النهاية فإن عبارة “الأمة مصدر السلطات” تعني كل الأمة، وليس فريقاً دون آخر، والبراك يمثل الشعب مثلما يمثله عدنان عبدالصمد أو غيرهما من ممثلي الشعب، والسؤال ليس من “هو” الذي سيحكم الشعب، وأي إلى قبيلة أو عائلة ينتمي؟ فهو الشعب الذي سيحكم نفسه بنفسه كأولى أوليات الحكم الديمقراطي، وإنما السؤال الواجب هو كيف يمكن أن تدار أمور الحكم؟ فالسنوات القليلة الماضية أوضحت بجلاء سوء الإدارة السياسية في الدولة التي تمثلث في تردي الوضع المالي للدولة رغم وفرة الاحتياطي، والمسؤولية هنا مشتركة بين مجلس غابت عنه الأولويات وغرق في خرق أبسط الحقوق الدستورية للمواطنة، وحكومات ضعيفة مفككة ليس لها رؤية للمستقبل، ووقفت لا مبالية أمام الخطاب المتزمت الأصولي، فماذا فعلت تلك الإدارة السياسية حين سلط المتزمتون سيوفهم على رقاب الناس وصادروا الحريات الشخصية للبشر، وأمعنوا في طرحهم الطائفي أحياناً، وهمشوا فئات (ونخباً) اجتماعية من الوجود، لم تفعل تلك الحكومات شيئاً وكأن الأمر لا يعنيها، وفي الوقت ذاته لم تقف تلك الحكومات بقوة تدافع عن مشاريع التطوير والتنمية، إن قدمت أياً منها! لنستطرد قليلاً هنا، ونعيد ما ذكره النائب الداهوم في ساحة الإرادة، قبل فترة، بأن الكويتيين هم البحارة والبدو الفرسان! فماذا يعني ذلك غير نفي الطبقة التجارية وتاريخها بكامله، ويبدو أن عبارة “الفساد والمفسدين” خصصت لهم في خطاب المعارضة، وماذا يعني خطابه غير نفي كل أصحاب الحرف والمهن التي أسست هوية الدولة من قلاليف وأستاذيه، وهم من بنوا سفن الغوص وبغلات التجارة وغيرها من خبابيز وصناع وصفافير! إذا لم يكن مثل هذا الخطاب فاشياً متغطرساً من ألفه إلى يائه فماذا يكون؟! الحكم الديمقراطي بمقتضى الدستور مسألة واجبة، ولكن قبل ذلك يتعين على دعاته تصفية صفوفهم من شوائب العنصريين والطائفيين قبل الحديث عن الحكم الدستوري الكامل الدسم.
أصداء الذاكرة (2-2)
يتحدث السيد عبدالعزيز الشايع بألم، وإن خفي، عن تجربته السياسية القصيرة عام 1964 عندما دخل الوزارة، وكيف اضطر للاستقالة نتيجة الصراع داخل البعض من الأسرة، وكيف استخدم طرف منها المادة 131 من الدستور، التي تمنع الجمع بين الوزارة والعمل التجاري، لنسف التشكيلة الوزارية، لأن مطالبه لم تلبَّ، وكيف استقال هو ورفاقه، ورفضوا العودة عن استقالاتهم، بالرغم من كل ما تعرضوا له من اغراءات وضغوط، وذلك لقناعتهم بصعوبة العمل مع بقية الوزراء الذين تسببوا في المقام الأول، ومن دون وجه حق، في رفض وجودهم في مجلس الوزراء! ويقول ان موقفهم كان صحيحا فقد تضمنت وزارات سابقة تجارا، استقالوا من أعمالهم التجارية فور توزيرهم، كما تنص المادة 131، كما تشكلت وزارات بعد استقالاتهم وتضمنت وزراء تجاراً، وبالتالي كانت المسألة صراعا وليست خلافا على نص دستوري! وكأن التاريخ يعيد نفسه بعد نصف قرن!
ويشير السيد الشايع في كتابه «أصداء الذاكرة» الى دور بالغ الحيوية بذله الجنرال الإنكليزي هستد، الخبير في تنظيم المدن، الذي كلفه الشيخ عبدالله السالم بإعداد دراسة تشمل إعادة تنظيم الكويت، وكان ذلك قبل 60 عاما! وان هستد خدم الكويت أفضل خدمة، وهو الذي خطط الشامية والشويخ والدسمة وكيفان، ورسم الشوارع الدائري الأول وحتى الرابع وخصص مناطق الشويخ الصناعية والشويخ ومنطقة المستشفيات والدفاع، وكان تخطيطه مثاليا، فقد ابعد الصناعة عن السكن واتاح التوسع سكنيا عند الحاجة بنقل مكاتب الدفاع ومعسكرات الجيش الحالية إلى مكان آخر، ووضع في كل منطقة سكنية مركزا لكل خدمات اهالي المنطقة مما جعلها نموذجية بحق، وهو امر نادر الوجود في الدول الأخرى. (ومع هذا، وهذا كلامي، لم يهتم احد بتسمية «سكة» صغيرة باسم هستد، في الوقت الذي أطلقنا فيه اسماء من هب ودب على شوارع مدننا، ربما لأنهم امتلكوا يوما كراجا أو حظرة صيد سمك أو جاخورا، أو كان نائبا سيئ السمعة!).
نعود ونقول ان أسس بناء الكويت القديمة التي خرجت منها الدولة الحديثة لم تكمن فقط في قدرة اهلها على العمل الشاق والسفر البعيد والمخاطرة في البحر والاغتراب الطويل، بل وأيضا بما تميزوا به من تقاليد أخلاقية صارمة، وكان من النادر سماع قصص تتعلق بالغش والتزوير والسرقة بينهم، بالرغم من أن غالبيتهم كانوا من الفقراء المعدمين. وكان صاحب المركب الشراعي أو البخاري يحمل اموالا طائلة وبضائع ثمينة ويسلمها لأصحابها كما هي من دون ان تسجل حادثة سرقة واحدة طوال مائة عام او أكثر. وبالتالي ما تحتاج له الكويت الحديثة هو العودة للنظام الأخلاقي الذي كان سائدا، وهذا لا يمكن تحقيقه من دون تضمين المناهج الدراسية مواد تتعلق بتدريس الأخلاق، التي ان هي ذهبت، وهي بالفعل قد ذهبت، فستذهب معها الأمم.
***
ملاحظة:
بناء على إلحاح لطيف من الزميل والكاتب نبيل المعجل، فقد عدنا للمشاركة في أنشطة التويتر ونشر مقالاتنا عبره ويمكن متابعتنا عن طريق العنوان التالي:
https://twitter.com/ahmedalsarrafl
أحمد الصراف
[email protected]
www.kalamanas.com