احمد الصراف

فضيحة المعجم المفسر

ما الذي سيكون عليه رد فعلك ان اكتشفت ان مؤسسة حكومية مرموقة قامت بالمشاركة في تغطية نصف تكاليف ترجمة وطبع دليل هاتف من الإنكليزية الى العربية، ويحتوي على أسماء نصف مليون مشترك، وان مجموعة كبيرة من الأطباء، والوزراء السابقين، والأكاديميين وحملة شهادات علمية عليا وجيش صغير من الإداريين شاركوا جميعا في الترجمة؟ ستشعر حتما بخيبة أمل، فما الفائدة المرجوة من ترجمة مجموعة أسماء من لغة لأخرى، كترجمة اسم John WilliamMartin، ليصبح في النسخة العربية «جون وليم مارتين»؟ ولكن الغريب ان شيئا من هذا القبيل حصل في «مركز تعريب العلوم الطبية» التابع لمجلس وزراء الصحة العرب (أي لا أحد) عندما قام المشرفون عليه بالبدء في انجاز مشروع ضخم يتعلق بترجمة مئات آلاف المصطلحات الطبية الأجنبية والانكليزية بالذات، الى العربية، تحت اسم «المعجم المفسر للطب والعلوم الطبية»، من إعداد السيد يعقوب الشراح، الذي لا صلة له بالطب، واشراف الطبيب والوزير السابق عبدالرحمن العوضي، الذي لا أعتقد ان سنه ومشاغله التجارية ومساهماته في إدارة العديد من المؤسسات غير الربحية الأخرى، تسمح له بالتفرغ للإشراف على ترجمة هذا المعجم، الذي سيتضمن عند الانتهاء منه، ملايين الكلمات الانكليزية والعربية المترجمة.
صدر الجزء الأول من المعجم قبل أيام، وخصص للحرف A، ووصفه أحد أشهر وأكفأ أطباء الكويت، بعد الاطلاع عليه، أنه «كنز من المعلومات غير المفيدة»! فإذا كان غرض القائمين على المشروع الاستفادة المادية منه، والخروج بمجلدات ضخمة لغرض الإنتاج فقط، فالمشروع لا شك انه ناجح! وان كان الهدف منه علميا بحتاً، فقد أفادني الطبيب نفسه وزملاء له ممن استشرتهم، بأن قلة فقط «قد» تستفيد من هذا المعجم، ومن خارج الكويت حتما، ولكن ما صرف، وسيصرف على اخراجه من مبالغ طائلة، شارك في دفعها مركز تعريب الطب ومؤسسة الكويت للتقدم العلمي، لا تبرر الاستفادة المتواضعة المتوقعة من هذا المعجم الذي سيأخذ مكانه على أرفف العيادات الطبية من دون حراك!
بتصفح المعجم سنجد ان كلمة عبداللطيف ترجمت Abdulatif، وان ability ترجمت الى مقدرة، وان Araban ترجمت أرابان، وان Abrin ترجمت ابرين، وTube ترجمت أنبوب، وهكذا مع آلاف الكلمات الأخرى، اما Abdomen فقد ترجمت «بطن» مع وضع شرح بأن البطن هو الجزء الواقع بين الصدر والحوض! فهل يمتلك احد الثقة برأي أو تشخيص طبيب بحاجة لمعرفة ان Abdomen تعني بطن، وأنه «الجزء الواقع بين الصدر والحوض؟».
كما لجأ فريق الترجمة إلى استخدام كلمات عربية مثل «خيلي» و«إنفحي» و«زيغ» و«انتاني» كترجمة نهائية لكلمات ومصطلحات أجنبية، علما بأن هذه الكلمات، وآلافا غيرها تحتاج بذاتها إلى معجم آخر لتفسير معانيها‍‍‍‍‍‍‍‍!!
لا أدعي المعرفة، وقد أكون مخطئا، فلا يسندني في ما ذكرت غير آراء مجموعة من الأطباء الذين لا مصلحة لهم في نقد هذا المشروع والشك في أهداف القائمين عليه، ونتمنى أن نسمع ردا من مركز تعريب العلوم الطبية يوضح الأهداف الخفية أو السرية لهذا المشروع الضخم.

أحمد الصراف

احمد الصراف

دعوة إلى قتل 330 ألف أميركي (2 ــ 2)

مقال الأمس تعلق بما قاله «دكتور استرالي» عن الأميركيين، والآن دعونا نقرأ ما قاله «دكتور كويتي» في محاضرة عامة:
«.. أربعة أرطال من «الأنثراكس»، أربعة أرطال من جنطة هلكبرها، يشيلها واحد «فدائي» ويدخلها من أنفاق «مكسيكو» الى الولايات المتحدة، كفيلة بقتل 330 ألف أميركي في ساعة واحدة، اذا أتقن نثرها على الوعاء السكاني هناك (!) مرعبة هذه الفكرة، يعني 11 سبتمبر تطلع «سلاطة» عند هذا الموضوع (ضحك من الجمهور)، صح وإلا لأ؟ وما في داعي طيارات و«شكبانات» ومواعيد ومؤامرات وتوقيتات. واحد عنده من «البسالة» اللي يدخل مع 4 أرطال من الانثراكس والى حديقة «البيت الأبيض» ويكت عليهم النون (أي الانثراكس) ويقوم «ييبب»، وتصير المسألة طماشة…»!

ورد الكلام اعلاه في محاضرة عامة وتم تسجيلها على شريط انتشر على الانترنت وأصبح امام سمع وبصر العالم اجمع، وكانت المحاضرة بعنوان «العرب قبل وبعد الحرب على غزة»، وقائل هذا الكلام هو المواطن الكويتي السيد عبدالله النفيسي، الاكاديمي والنائب السابق، الذي تم تقديمه في المحاضرة لكونه «مفكرا عربيا ودكتورا»!
كان يمكن اعتبار المحاضرة نوعا من التحذير، لعقلاء اميركا والعالم لما يمكن ان يحدث في حال وقوع مثل هذا السلاح المدمر بيد مجموعة «مجرمة»، ولكنه كان ابعد ما يكون عن ذلك فإمارات النشوة والسرور التي كانت بادية على المحاضر، والمفردات والاوصاف التي استخدمها، والكيفية التي وصف بها طريقة قتل اكثر من 330 ألف اميركي خلال ساعة واحدة، كل ذلك لا يمكن وصفه وتلخيصه بكلمات قليلة، بل يتطلب الامر مشاهدة شريط المقابلة على الرابط التالي لمعرفة حقيقة مشاعر المحاضر ونواياه:
http://switch3.castup.net/cunet/gm.asp?ClipMedialD=3387815&ak=null

لاأدري كيف يمكن ان نطلق وصف او لقب «فدائي» و«باسل» على من يقبل على نفسه تهريب 4 ارطال من مادة «الانثراكس» الى داخل اميركا، ونثرها على الاميركيين، الذين سبق ان تحدثنا عنهم في مقال الامس، وقتل 330 ألفا منهم في ساعة واحدة؟ وكيف يمكن ان نبرر للعالم ان من سيقوم بذلك العمل سـ «ييبب» بعدها، اي سيرفع صوته بالزغردة والصلاة على النبي وآله، فور قتله 330 ألف نفس بشرية بريئة، سيكون بينها حتما آلاف العرب والمسلمين؟
وكيف يمكن ان نجيب عن سؤالنا عن مواقف ومشاعر الرعاع منا اذا كان هذا «منطق مفكرينا»؟
والأهم من كل ذلك ما الذي سنجنيه، عرب ومسلمين، او غير ذلك من بشر وحجر وبقر، لو قام مهموس ديني او مجنون بتطبيق كلام هذا «المفكر العظيم» بحذافيره؟ هل سيصبح العالم اكثر عدلا وسلاما مثلا، وينتشر الخير فيه، ام ستكون تلك اولى علامات ظهور المهدي المنتظر، عندما تمتلئ الارض جورا وظلما؟ وما الذي ستكون عليه ردة فعل حكومة الولايات المتحدة وشعبها، ان قتلنا منهم 330 ألف نفس بريئة في ساعة واحدة؟ هل سنتمكن بعدها من استعادة فلسطين من الاسرائيليين والجزر من الايرانيين والاسكندرون من الاتراك والاندلس من الاسبان؟ وما فائدة كل ذلك ان تساقطت على رؤوسنا القنابل النووية وخربت ما هو صالح في دولنا، على قلته؟ وهل ماتت المشاعر والاحاسيس فينا بحيث اصبحنا لا نكترث لموت 330 ألف نفس اميركية بريئة في ساعة واحدة، وقد يكون بينهم اهل واصدقاء خلص لنا، فقط لان حكومة تلك الدولة ساعدت من هو عدو لنا، وكأننا لم نكن اعداء انفسنا لمئات السنين؟
آه ايها المنطق وايها العقل ما أجملكما وما أندر وجودكما!

أحمد الصراف

احمد الصراف

دعوة لقتل 330 ألف أميركي (1/2)

نشر إعلان، في صورة خبر، في صحيفة باكستانية قبل فترة قصيرة تعلق بقيام مواطن هناك برصد جائزة لكل من يقتل اميركيا، اي اميركي! اثار خبر رصد الجائزة حفيظة طبيب اسنان استرالي، فكتب في اليوم التالي تعليقا عليه ونشر التعليق في الصحف الاسترالية، حاول فيه تعريف من هو الاميركي المطلوب قتله، لتسهيل مهمة الطامحين، او الطامعين، في الحصول على الجائزة في التعرف عليه!
يقول الطبيب ان الاميركي هو الانكليزي والفرنسي والايطالي والايرلندي والالماني والاسباني والبولندي والروسي واليوناني، وهو حتما كندي ومكسيكي وافريقي وهندي وصيني وياباني ومن كوريا،واستراليا، وايران، والدول العربية قاطبة، وباكستان، وحتى افغانستان، كما قد يكون الاميركي من قبائل الكومانشي، او الشيروكي، او الاوسغي، او البلاك فوت، او النافاهو او الاباشي والسيمينولي، او اي من قبائل اميركا الاخرى، وقد يكون الاميركي مسيحيا، وقد يكون يهوديا، بوذيا، او مسلما، والحقيقة ان هناك مسلمين في اميركا اكثر مما هناك في افغانستان، والفرق انهم في اميركا احرار في اتباع ما شاؤوا من معتقدات دينية، فمواطنو اميركا احرار حتى في اختيار عدم اتباع اي عقيدة دينية، فهذا الامر بين كل فرد وربه، وهو مسؤول امامه وليس امام حكومته، او عصبة من الاشرار الذين يدعون تمثيل الحكومة او الرب.
الاميركي هو الذي يعيش في اكثر المناطق ازدهارا على مر التاريخ، وجذور ذلك الازدهار تراها في وثيقة اعلان الاستقلال التي تعترف بحق كل فرد في ان يسعى جاهدا لان يكون سعيدا.
اميركا كانت دائمة كريمة مع الآخرين، فهي التي ساعدت تقريبا كل دول العالم وقت الحاجة، ولم تطلب من اي منها دفع مقابل ما منحته، فعندما احتل الاتحاد السوفيتي افغانستان قبل 20 عاما، قامت اميركا بتقديم العون للافغان للتخلص من محتليهم، واستعادة وطنهم، وحتى ساعة وقوع احداث الحادي عشر من سبتمبر كانت اميركا المانح الاكبر لفقراء افغانستان.
كما ان الاميركيين يرحبون دائما بالاحسن، في اي مجال كان، الافضل في المنتجات والافضل في الروايات والدراسات، والافضل في الموسيقى، والافضل في الاطعمة، والافضل في الخدمات، كما انهم يرحبون في الوقت نفسه بالاقل جودة وحظا.
يعتبر «تمثال الحرية» الرمز الوطني لاميركا، وهو الذي يرحب بالقادمين إليها من المتعبين والفقراء والمحرومين والبؤساء الذين لفظتهم بلادهم ليجدوا انفسهم على شواطئها، وهؤلاء في الحقيقة هم الذين بنوا اميركا، وكان بعض هؤلاء من العاملين في برجي التجارة العالمي في صباح يوم الحادي عشر من سبتمبر 2001 ساعين لحياة افضل لاسرهم، ويقال انهم انتموا لاكثر من 30 جنسية وثقافة ودين ولغة، ويشمل ذلك حتى لغات الدول التي قدم منها الارهابيون الذين فجروا البرجين.
وعليه، يمكن ان تجرب، ايها الطامع في الجائزة، ان تقتل اميركيا، اذا كان لا بد من القيام بذلك، ولكن لا تنس ان هتلر حاول ذلك من قبل، كما حاول الجنرال توجو الياباني، وستالين وماوتسي تونغ، وعدد آخر من المتعطشين للدماء من طغاة العالم، ولكن إن فعلت ذلك ونجحت في القيام بقتل اميركي، فانت في الحقيقة تقتل نفسك، فالاميركيون ليسوا بشرا محددين من منطقة محددة، بل هم الذين تتمثل بهم الروح الانسانية المحبة للحرية، أينما كانوا.
وكما ان خطأ طبيب لا يلغي الطب فإن السياسة السيئة لرئيس اميركي، أو أكثر، لا تلغي روعة أميركا وعظمتها.
* * *
• ملاحظة: نهنئ أنفسنا وكل المحبين الفرحين بعيد فالنتاين!!

أحمد الصراف

احمد الصراف

دموع في فويل (2/2)

يقول ليو ببيوتا إنه سئل مرة عن الكيفية التي يمكن بها جعل القراءة عادة محببة للكبار والصغار، لأن الكثير من الوقت يضيع من دون فائدة. وقال إن جوابه كان قصيرا وسهلا: ابدأ بقراءة الممتع والقصير والمثير والسهل اللغة من الروايات وأدب الرحلات والمغامرات، ولن تتخلى عن الكتاب بسهولة، ومع الوقت يصبح الأمر عادة يومية وجزءا من روتين الحياة. ويقول ببيوتا إنه تعود على القراءة منذ الصغر، وانه عادة ما يغرم بنسيان نفسه، وهو يقرأ ليصبح رفيق شخصيات الرواية التي يقرأها، يحب هذا ويكره ذاك، وينفعل مع الثالث، ويشارك الرابع أحزانه. ويعتقد أن غالبية الناس تتعامل مع القراءة بطريقة خاطئة من خلال إجبار نفسها على حبها، وهذا ما يجعلها في نهاية اليوم مكروهة. ويقول إنه يجب تغيير هذه النظرة واعتبار القراءة متعة قبل أن تكون أي شيء آخر، كما أنها أمر عظيم الأهمية ونافعة صحيا ومفيدة أكثر من آلاف الأنشطة الأخرى. ولكن هل القراءة أحسن من اللعب خارج البيت، أم أفضل من محادثة جيدة، أو من ممارسة رياضة ما، أو الرسم، أو تصفح الإنترنت، أو التمتع بالطبيعة أو الاستماع للموسيقى، أو ممارسة الرقص؟ لا يعتقد ببيوتا بصحة ذلك، فلكل نشاط فائدته ومتعته، إن كانت المتعة هي الهدف. ولكن القراءة قد تكون أكثر منفعة إن كانت بهدف تثقيف النفس وزيادة فرص النجاح في الحياة، وعلى أي حال القراءة ليست وسيلة لبلوغ هدف بل هي غاية في حد ذاتها لكونها متعة قصوى، وهكذا يجب أن ينظر اليها، فإن استفاد القارئ منها بشكل غير مباشر في المدرسة أو العمل أو الحياة فـ «زيادة الخير خيرين».
أما بالنسبة إلى تعويد الأطفال على القراءة، وما يشكله عزوفهم عنها من قلق لأسرهم، فيجب الا يكون هذا مدعاة للقلق، فما هو مهم هو أن نكون قدوة لهم في القراءة أمامهم ولهم، حتى وهم رضع، وربما قبل ذلك، وأن نجعل الأمر روتينا في وقت ومكان محددين، وأن نذهب مع أطفالنا الى المكتبة بين الحين والآخر، ونقرأ أمامهم ونجعلهم يشاركون في اختيار ما يناسبهم من الكتب. انتهى كلام ببيوتا.
المهم في رأيي الشخصي أن الوسيلة الوحيدة للتعلم بصورة جيدة هي القراءة المستمرة، فلا المدرسة ولا الجامعة ولا المسرح ولا السينما ولا التلفزيون مجتمعة يمكن أن تعطينا المعنى الحقيقي للمعرفة وللحياة، فلا يزال الكتاب، سواء التقليدي الذي يمسك باليد ويمكن تصفحه، أو ذلك المدون على الإنترنت، هو المصدر الأكبر للمعرفة، هكذا كان لآلاف السنين، وهكذا سيبقى لبعض الوقت. كما أن استمتاعنا أو شغفنا بأي رياضة أو هواية أو حضور مسرحية أو سماع مقطوعة عادة ما يكون أكبر متى ما دعمته القراءة في الحقل نفسه.

أحمد الصراف

احمد الصراف

دموع في مخزن «فويل»

قال يورغ بورجس، ولا أعرف من هو: لطالما تخيلت الجنة مكتبة كبيرة!
نشرت صحيفة البوست الأميركية في 22 يناير مقالاً بقلم ليو ببيوتا، بعنوان «كيف نزرع حب القراءة في اطفالنا، أو في أنفسنا؟»،وعندما قرأت المقال، الطويل نسبيا، تذكرت الحادثة الرائعة والأليمة، في الوقت نفسه، التي حدثت لي قبل أربعين عاما في مخزن فويل للكتب، الأكبر والأشهر في لندن، وربما في أوروبا كلها.
فور وصولي الى لندن لأول مرة شتاء 1968 سألت المشرف على برنامج تدريبنا في بنك باركليز عن أقرب مكتبة، فدلني على واحدة تقع في شارع ليس بالبعيد عن مكاتبنا، وعندما ذهبت إليها بعد نهاية الدوام اكتشفت انها مكتبة عامة. ويومها تعلمت أن هناك فرقاً بين مكتبة Library، وهو المكان الذي يوفر الكتب مجانا للقراءة والاستعارة، وبين Book stoor أي «مخزن كتب»، ولكننا في العربية نستخدم كلمة واحدة للمعنيين أو المكانين، ثم نصر على الادعاء بثراء لغتنا لمجرد أن لدينا مائة اسم للأسد وما يماثلها للسيف،ونصف ذلك للبعير، وثلث ذلك للبعرة والخنزير!
المهم ذهبت بعدها بأيام إلى مخزن «فويل» لبيع الكتب وكانت مفاجأة مؤلمة بانتظاري بعد ان وقع نظري على صف من الكتب التي كانت عناوينها مألوفة لدي مثل «الحرب والسلام» للروسي ليو تولستوي، و»أنا كارنينا» للمؤلف نفسه، و «البؤساء» لفكتور هيغو، وغيرها العشرات من أفضل قصص الأدب العالمي! منظرها على ذلك الرف أصابني بالدهشة المصحوبة بالألم للخديعة التي تعرضت لها، وما كنت أعتقده طوال سنوات عدة، بالفهم والإطلاع، ولم استطع مغالبة دموعي وأنا أبحلق بتلك الكتب وأمرر أصابعي على مجلداتها الضخمة، فبالرغم من أن ترجماتها جميعا كانت موجودة لدي في الكويت، والتي طالما تباهيت بها وبقراءتها أمام أقراني، غير أنني الآن فقط تبين لي كم كنت واهما! فحجم أي رواية كانت على ذلك الرف، كان يعادل من عشرة الى عشرين ضعف حجم ما كان لدي من ترجماتها، وهذا جعلني أشعر بالحزن على جهلي وعلى ما أضعته من جهد ووقت ومال في قراءة ترجمات مشوهة غير ذات معنى، هذا إضافة الى فراغ كل ادعاءاتي بالمعرفة والاطلاع! ولكن سرعان ما ارتاحت نفسيتي عندما تبين لي أنني كنت محظوظاً بذلك الاكتشاف المبكر نسبيا، فمن دونه كان سيستمر نزيف «تضييع الوقت» لفترة أطول.
عندما عدت إلى الكويت بعدها ببضعة أشهر، حملت جميع تلك الكتب، وكانت بالمئات، التي كان يطلق عليها ناشروها «عيون الأدب العالمي»، وكانت تتصدر غلاف غالبيتها جملة «ترجمة نخبة من الجامعيين»، حملتها وذهبت بها إلى مخزن كتب كان يملكه المرحوم باقر خريبط يقع بين سينما الحمراء والفردوس، وبعتها جميعا خلال أيام بمائة فلس للكتاب، أو للعين العالمية الواحدة!
والآن عندما أنظر إلى تجربتي المشوهة والبائسة تلك مع «عيون الأدب العالمي» أجد أنني لم أكن سيئ الحظ الى تلك الدرجة، وان وقتي لم يهدر من غير طائل، فلولا قصر تلك القصص وجمال حبكاتها الروائية المستمدة من الأصل، لما تعلقت بقراءة أي منها بالمتعة والشغف نفسهيما، فلو أعطيت وقتها الترجمة الكاملة الأصلية لرواية «الحرب والسلام» مثلا، بمجلداتها الاربعة، لما أحببتها بالمتعة والشغف نفسهيما، وبالتالي لم يكن حبي للقراءة قد تأصل في نفسي أبدا، وهذا يقودنا لما بدأنا به كلامنا من موضوع مقال الكاتب ليو بابيوتا في «البوست» عن كيفية زرع حب القراءة في أطفالنا وأنفسنا، وهو موضوع مقالنا التالي.

أحمد الصراف

احمد الصراف

مسيحيو فلسطين.. و«حماس»

مقالي عن مسيحيي الشرق أثار شجون الكثيرين، وخاصة من خلال تعليقات القراء في «القبس» وعلى موقع «شفاف الشرق الأوسط» المميز. وقد أرسلت سيدة فلسطينية رسالة حزينة قالت فيها ان مسيحيي فلسطين لم يقصروا يوما في العمل الوطني، بكل أشكاله. ولكنهم، ومنذ فترة، وهم يعانون من «حماس»، حتى قبل ان تصل الى السلطة. فهي تهدد وجودهم وتطالبهم بارتداء الحجاب، ولو بطريقة غير مباشرة، ولكن باستفزاز.
وتجرأ البعض من رجالها وطالبنا بالتحول الى الإسلام. كما ان المسيحي الفلسطيني يعامل كمواطن من درجة أدنى، وأحياناً تقوم «حماس» بالحد من حرية تحركهم. وتقول انهم تألموا كثيرا عندما شاهدوا الوفود العربية الأخيرة تتوجه الى «حماس» والمساعدات للمسلمين والمطالبات جميعها لإنقاذ حياة الشيخ المسلم والطفل المسلم والمرأة المسلمة، وكأن لا أحد غيرهم هناك، أو كأن قنابل اسرائيل تفرق بين الفلسطينيين المسلم والمسيحي!
وهذا صحيح، فحماس وجمهرة مؤيديها في العالم العربي، لا يعترفون بمن لا ينتمي الى خطهم السياسي من المسلمين، فكيف نتوقع منها اللطف بمسيحيي فلسطين الذين سيكونون أول ضحايا تسلمهم السلطة المطلقة، ان حكموا كل فلسطين يوما؟! وما اقترفوه من اجرام بحق «اخوتهم واشقائهم» من مؤيدي «فتح» فور تسلمهم السلطة في غزة قبل أشهر قليلة، خير دليل!
ويقول الزميل عبدالرحمن النجار في مقال له ان مسلسل ضحك الأحزاب الدينية في الكويت وغيرها على الذقون مستمر، فسفر مجموعة من نواب هذه الأحزاب الى دمشق لتهنئة زعامة «حماس» بالنصر، يصب في هذا الاتجاه. فهؤلاء هم الذين سبق ان روجوا لمعجزات الأفغان في حربهم مع الروس وانتصاراتهم الوهمية، وكيف أن روائح الطيب كانت تنبعث من جثث قتلى المجاهدين، وعكس ذلك من جثث خصومهم من الروس الكفار!
وفي تعليق آخر، أرسله صديق من مسيحيي العراق، ومن عقولها الكبيرة، التي فضلت الهجرة الى الغرب، أن من الأفضل كثيرا لمسيحيي الشرق مغادرة أوطانهم، فما عانوه حتى الآن على أيدي متخلفي المسلمين وغلاتهم يكفي! فالكثير من الخراب والقتل والتشريد قد حل بهم وبأملاكهم وبقياداتهم الدينية، وأن هناك جهات فعالة تسعى الى دفعهم للهجرة طيبا أو قسرا.
ويستطرد قائلا إن هذه الطريقة في التعامل مع المسيحي الشرقي، والعربي بالذات، ستكون لها ردات فعل قوية مستقبلا من أميركا والاتحاد الاوروبي. وان أوضاع المهاجرين المسلمين في الغرب ستكون محل تساؤل قريبا هناك، ولا يستبعد ان يتخذ الغرب اجراء ما ضد مسلمي دولهم، قد يكون بينها خيار إعادة الكثيرين منهم الى أوطانهم الأصلية، ان استمرت عمليات تهجير مسيحيي الشرق من بيوتهم وقراهم ومدنهم، كما هو حاصل في عدد من دول الشرق الأوسط العربية وغيرها وباكستان. فالمواطن الغربي ليس غبيا ولن يستمر تسامحه إلى الأبد!
***
ملاحظة: قبض على عراقي، بعد معركة تحرير الكويت عام 1991 وهو يجمع الأموال من أجل أميركا، وعندما أصبح أمام صدام وسأله عن تصرفه، قال: سيدي، والله أميركا كسرت خاطري، قلت أجمع لها تبرعات، فاذا احنا المنتصرين هيجي حالتنا، اشلون حالتها وهي المنهزمة؟!

أحمد الصراف

احمد الصراف

تاتا وفلسطين والعرب

كانت تباشير صيف عام 1974 قد بدأت بالظهور على مدينة بنغلور، وبدأت الحرارة بالارتفاع، وكنت وقتها الفتاة الوحيدة في السنة النهائية في كلية الهندسة بجامعة الهند للعلوم والتكنولوجيا، وكنت أحلم بذلك اليوم الذي أغادر فيه إلى أميركا لإكمال دراستي هناك بعد حصولي على منحة دراسية من واحدة من أحسن جامعاتها، وربما سأبقى هناك. ولم أكن وقتها أفكر في العمل في الهند. وفي يوم ما وأنا في طريقي الى سكن الطالبات، لفت نظري إعلانٌ يطلب مهندسين للعمل في مصانع «تلكو»، التي تعرف اليوم بـ«مصانع تاتا»، وقرأت في الإعلان أن الطلب مقتصر على الذكور فقط! ساءني ذلك كثيرا، فقد كانت تلك تجربتي الأولى مع التفرقة حسب الجنس! وبالرغم من عدم رغبتي في الحصول على الوظيفة، بسبب تطلعاتي الطموحة الأخرى، فإن الأمر أثار لدي رغبةً في التحدي، فكتبت، فور وصولي الى النزل، رسالة غاضبة إلى الشركة للاحتجاج على غياب العدالة في المعاملة، خصوصاً أنني كنت أفضل، أكاديميا، من جميع الطلبة الذكور في الكلية. وعندما انتهيت من كتابة الرسالة أخذت أفكر في من أرسلها إليه، فلم أكن أعرف من يدير تلك الشركة العملاقة، ولكني تذكرت أنني رأيت صورة «جي.آر.دي.تاتا» في مجلة محلية، وهكذا عنونت رسالتي له شخصيا. وما أزال، بعد ثلاثين عاما، أتذكر كل كلمة كتبتها، حيث قلت: إن عائلة «تاتا» كانت دائمة رائدة في الكثير من المجالات، فهم الذين خلقوا بنى الصناعة الأساسية في الهند كالحديد والصلب والنسيج والمركبات والمحركات. كما اهتموا بالتعليم العالي منذ عام 1900، وكانوا وراء تأسيس المعهد الهندي للعلوم، حيث أدرس. ولكني أشعر بالألم لأن شركة مثل «تلكو» تعامل الآخرين حسب جنسهم!
أرسلت الرسالة غير عابئة بالنتائج، وخلال عشرة أيام جاءني الرد برقيا، مع طلب سفري الى مقر الشركة للمثول أمام لجنة اختبار. وورد في البرقية أن جميع مصاريف التنقل والإقامة ستتحملها الشركة. لم يكن هناك شيء أخسره إن قبلت العرض، فضلا عن أن أسعار الساري في المدينة التي كنت سأسافر اليها رخيصة جدا.
في يوم المقابلة كان بانتظاري ستة رجال متجهمي الوجه، وشعرت بأن فرصة حصولي على الوظيفة ضئيلة عند سماعي أحدهم يقول لزميله، هذه هي الفتاة التي بعثت برسالة إلى السيد تاتا! وزاد يأسي عندما خاطبني رئيس اللجنة بالقول إن ذلك الإعلان كان لطلب مهندسين للعمل في ورش المركبات، وهو مكان لا يصلح للفتيات. ولكني حاججتهم بالقول ان عليهم إفساح المجال للمرأة لكي تعمل في أي مكان. بعد جدال قصير والإجابة على كل أسئلتهم حصلت على الوظيفة التي كانت حتى وقتها مقتصرة على الرجال، وكان التحدي كبيرا، وهكذا قبلت وعملت في تاتا، بعيدا عن موطني، وهذا ما لم أكن أتخيله، وتعرفت هناك بعد فترة على فتى خجول سرعان ما أصبح زوجي.
بعد أيام من عملي في الشركة علمت بأن «جي.آر.دي.تاتا» كان ملك الصناعة الهندية غير المتوج، وكنت فتاة صغيرة فقيرة وجاهلة من قرية لا يمكن رؤيتها على الخريطة لصغرها. ولم يكن تاتا رئيس الشركة، بل رئيس المجموعة بكاملها، وهذا أدخل الرعب الى قلبي الصغير خوفا من أن ألتقي به يوما فيعنّفني. وزادت الاحتمالات في ملاقاته بعد أن نقلت للعمل في المقر في «مومباي»، وتحققت مخاوفي، فسرعان ما التقيت به في مكتب مديري، وشعرت بالخوف وأنا أتذكر كلمات رسالتي إليه، وكدت أنهار عندما قدموني اليه بالقول انني أول امرأة تعمل في ورش الهندسة في «تلكو» مهندسةً! فنظر إليّ السيد «تاتا» مليّا، وكنت ساعتها أصلي لكي لا يكون قد تذكر اسمي أو الرسالة، ولكنه قال: من الجيد أن الفتيات أصبحن يعملن في ورش الهندسة في مصانعنا، ما هو اسمك؟ وعندما ذكرته له ابتسم وهز رأسه وانشغل بالحديث مع مديري. وكانت فرصة للهرب من الغرفة. بعدها بأسابيع كنت أقف خارج المكاتب ليلا بانتظار زوجي، وفجأة رأيت السيد «تاتا» يقف بجانبي فانتابني الخوف منه ثانية، ولكنه بادرني بالسؤال بحنان عن سبب وقوفي هناك ووقت العمل قد انتهى. فقلت له السبب، فقال لقد أظلمت الدنيا وليس هنا أحد، سأقف معك إلى أن يأتي زوجك. ولكن ذلك جعلني أشعر أكثر بعدم الارتياح، فقد كنت معتادة انتظار زوجي في ذلك المكان، ومن طرف عيني نظرت اليه فرأيت رجلا يرتدي بنطالا وقميصا أبيضين، ولم تكن تبدو عليه أي مظاهر أبهة أو ثراء كبير. وقلت في نفسي: ها هنا رجل تنظر اليه الهند بأكملها بإجلال واحترام، ومع هذا لم يتردد في الوقوف مع فتاة هندية فقيرة وعادية إلى أن يأتي زوجها..يا له من شخص عظيم.
في عام 1982 استقلت من «تلكو» للبدء بمشروعي الخاص. واليوم، بعد ربع قرن، تبلغ نسبة الإناث في كليات الهندسة في الهند 50%. كما أن العديد من ورش الصناعة في الهند تعمل بها مئات آلاف السيدات، وربما كنت الأولى بينهن، وكل الفضل يعود لرسالة قصيرة من فتاة فقيرة لرجل كبير عرف كيف يعطي مجتمعه بقدر ما أعطاه.
الخلاصة: لكي يكون لنا يوما الحظ والنصيب في أن تكون لدينا القدرة على تحرير ما احتُلّ من بلادنا، والتحرر من تخلفنا، فإن علينا الاقتداء بشخصيات من أمثال الهندي «جي.آر.دي.تاتا»!! فبغير التحصيل العلمي ومساواة المرأة بالرجل وفتح المجال لها في كل ميدان وعمل، لا يمكن أن ننهض، وهذه حقيقة عرفها كل مصلحي العصر الحديث وقادته المستنيرين!! ولكن متخلفينا قالوا ان مكان المرأة هو البيت، وإن تخرج فإلى بيت الزوجية، إن تزوجت، أو الى القبر!!

أحمد الصراف

احمد الصراف

خلط الاختلاط بالمخلط

أقر مجلس الأمة ـ بناء على طلب متخلف، وحكومة ساهية ـ قبل سنوات قانونا، منع فيه التدريس في قاعات تضم طلاباً وطالبات، في المعاهد والجامعات.
ومعروف أن روح قانون منع الاختلاط يكمن في اعتقاد من أيدوا صدوره، من أن التقاء الذكر والأنثى ـ ولو كان في ملعب كرة قدم كامل العدد، وبوجود عشرات آلاف الأعين من حولهم ـ محرم ومثير للغرائز الجنسية، ويؤدي الى الانحراف والفساد. وبالتالي، يجب منعه، ولو قسراً!
وحيث إن لا فرق كبيراً بين رغبات وغرائز طالب أو طالبة جامعية وبين عضو ـ ذكراً أو أنثى ـ في مجلس الأمة، فإن الخوف من «اختلاط الجنسين» يجب أن يشمل الجميع من دون تفرقة!
ولكن ما نراه من ممارسات مشرّعينا مثير للعجب. فمن حقهم ـ بسبب غرابة طينتهم ـ السفر في وفود رسمية ومقابلة من يشاءون من النساء، رسميا وغير ذلك. ومن حق نائب، مثل ناصر الصانع، مشاركة زائرات أجنبيات شقراوات في أداء رقصة العرضة، وأمام كاميرات الصحافة، ومن نواب جمعية الإصلاح الاجتماعي ـ الذراع المحلية للتنظيم العالمي للإخوان المسلمين ـ دعوة السفيرة الأميركية السيدة ديبورا جونز، الى عقر دارهم، وإصرار كل فرد منهم على مصافحتها، ولمس يدها الكريمة والبضة من دون تردد أو تفكير في أن ما يقومون به محرم على غيرهم، طبقا لما صدر عن مجلسهم من قوانين، وما منعوا غيرهم من القيام به!
فكيف يمكن تصور أن «ذكر» جمعية الإصلاح يختلف عن {الذكر} الطالب في كلية الطب مثلا، أو أن السيدة جونز تختلف في مشاعرها عن طبيبة المستقبل؟!
إن هذا القانون، كما غيره من القوانين الغريبة والعجيبة، كان يمكن أن ينسى كما نسي قانون منع المنقبة من قيادة المركبة، ومنع التدخين في الأماكن العامة وعشرات القوانين الأخرى التي لم تطبق، ولكنه القانون الوحيد الميت الذي أصر متخلفو المجلس على إحيائه المرة تلو الأخرى، لأنه ببساطة ينسجم مع رؤاهم الظلامية والمشككة في كل تصرف، والتي تنسجم مع مخططهم الرامي الى أسلمة كل أمور المجتمع، حسب مفهومهم الخاص.
ما جرى قبل أيام في كلية الطب من إحالة رابطة الكلية الى التحقيق ـ بزعم أنها أقامت ندوة عادة لم يراع فيها قانون منع الاختلاط ـ أمر يدعو الى الحزن لما وصلنا اليه من تردٍّ لدرجة تدعو الى الرثاء، خاصة ان علمنا أن الرابطة قامت بوضع حواجز بين جنسي الحضور في تلك الندوة التي حاضر فيها د. احمد الخطيب، ولكن لكون الرابطة غير مسيطر عليها من أي من الأحزاب الدينية المتخلفة، فحق عليها العقاب والتأديب والتحقيق.
من المؤلم أيضا أن يعامل طبيب أو طبيبة المستقبل بمثل هذه الطريقة الفاسدة والمشككة، ويصبح الأمر مضحكا حقا عندما نعلم أن مناهج كليات الطب تتضمن دروس تشريح للجسد البشري، والتي تتكشف فيها ومن خلالها كل الأعضاء البشرية أمام الطلبة الذكور والإناث من دون تفرقة، لمعرفة وظيفة كل عضو بدقة. كما تتضمن الدراسة زيارات ميدانية لمرضى المستشفيات والكشف عليهم ورؤية أكثر الأماكن خصوصية وحساسية في أجسامهم، وبعد كل ذلك يريد متخلفو الأحزاب الدينية منا الاعتقاد بأنه تحق للنائب مصافحة يد السفيرة الأميركية في عقر مقر «حدس» ولا تحق لطبيب المستقبل مشاهدة زميلته في كلية الطب، حتى وهي ترتدي طبقات وطبقات من الملابس؟!
إن هذه الأمة مقضيّ عليها بالفشل حتما، لأن مشرّعيها رضوا واطمأنت عقولهم، قبل قلوبهم، بوضع أجسادهم وأرواحهم وأجساد وأرواح فلذات أكبادنا مستقبلا، بأيدي هؤلاء الأطباء، وقبلها بأشهر قليلة فقط حرم هؤلاء الأطباء بالذات من مجرد نظر ذكرهم لأنثاهم حتى خلال ندوة عامة! لا شك في أن هذا مؤشر واضح على مدى التدهور المنطقي، قبل الخلقي الذي وصلنا اليه، فواأسفاه على هذا الوطن الصغير الذي ينزلق يوما بعد يوم من بين أيدينا، من دون أن نكترث، لتتلقفه براثن مجموعة لا تعرف غير مصالحها ولا تفكر إلا في ما ينسجم مع البليد والمتخلف من عاداتها وتقاليدها!

أحمد الصراف

احمد الصراف

معجزة الجوائز والتفاح

تصاحب الأزمات المالية عادة زيادة كبيرة في عدد المحتالين وتنوع طرق احتيالهم، وتصاحب زيادتهم في الوقت نفسه زيادة في عدد السذج، أو حتى العقلاء، الطامعين في جني ربح سريع يمكنهم من الخروج من أزماتهم المالية التي تحتاج الى معجزة. وفي جميع الأحوال تبدو الغالبية العظمى على غير استعداد للتوقف والسؤال: هل هناك حقا من هو على استعداد لأن يعطي شيئا مقابل لا شيء؟ الجواب: لا كبيرة، وال «لا» هذه تشمل حتى المحسنين الحقيقيين، فهؤلاء إما يبحثون عن المردود النفسي الدنيوي أو الأجر الأخروي! فعدد من وقع في حبائل عمليات النصب النيجيرية والاسبانية لا شك كبير، وأقول ذلك من واقع ما كان ولا يزال يردني أسبوعيا، عبر البريد العادي والانترنت، من رسائل تحتاج الى درجة كافية من الغباء لتصديق مضامينها، ومع هذا لا يزال سوقها رائجاً، مما يعني أن هناك دائما من هو على استعداد لتصديق أي شيء، ولو كان حلما واهيا!
وعلى الرغم من براعة النيجيريين والاسبان في هذا النوع من النصب والاحتيال، فان دولا عديدة أخرى دخلت على الخط، وأصبح ما يرد منها أكثر حرفنة ودقة بحيث يصعب حتى على العاقل عدم تصديق ما يرد بها من عروض مغرية، ولكن الكثيرين لا يودون تصديق أنThere is no free lunch!
تسلمت في الأسبوع الماضي رسالة تحمل شعار الملكة اليزابيث وصادرة عن قصر باكنغهام تقول إن «مؤسسة الملكة الخيرية»، كدأبها كل عام، خصصت مبلغ 500 ألف جنيه إسترليني لتوزيعها على 28 جهة، منها 14 خيرية، وما يماثل ذلك العدد من الشخصيات المميزة في مجالها. وأنه تم اختياري لإنجازاتي الصحفية ولإسهاماتي في حقل «حقوق الإنسان»! وأن جهات «دبلوماسية» في الكويت هي التي رشحت اسمي لنيل الجائزة(!). وطلب مني مرسلو الكتاب تزويدهم برقم حسابي في فرع مصرف بريطاني محدد، وذكروا اسم الفرع الذي أتعامل معه وعنوانه الكامل!
أثار الكتاب فضولي، علىالرغم من ثقتي التامة بأن كل ما ورد فيه كذب بواح صراح نواح. بعد البحث الذي لم يستغرق طويلا، تبين لي أن هؤلاء النصابين والمحتالين قد وصلوا الى درجة عالية من الحرفية في النصب، حيث عرفوا بأنني كاتب صحفي وسبق لي أن سكنت في بريطانيا، وأن لي علاقات طيبة مع السفارة البريطانية، وأنني أتعامل مع فرع مصرف بريطاني محدد بالاسم، والأغرب من ذلك أنهم بذلوا جهدا في دراسة مقالاتي، واكتشفوا أنني سبق ان كتبت عن موضوع حقوق الإنسان، وهذا جهد لا يمكن أن يقوم به شخص بمفرده!
كدت أصدق، إلى درجة 1% محتويات الرسالة، وقررت الاتصال بالسفارة البريطانية لنفي ما خالجني من شك، ولكني لم أقدم على ذلك بعد قيامي بقسمة مبلغ الجائزة البالغ 500 ألف جنيه على 28 جهة فتبين أن نصيب كل فائز سيبلغ 14/ 857 17 جنيها إسترلينيا، وهذا مبلغ غريب لا يمكن تصديقه، ولا يمكن أن تتبرع به الملكة لشخص مثلي! وبالتالي شطبت الرسالة وذهبت الى فراشي، وعندما قمت صباح اليوم التالي من النوم، اكتشفت أنني لم أحلم بالجائزة، ولا بأنني ثري ولا بمراسم منحي الجائزة في قصر باكنغهام، لأنني ثري أصلا وسبق أن دخلت القصر كزائر، ولم أهتم بمقابلة الملكة، لأنها لا تصافح أحدا بغير قفاز يد، وهذا ما لا أستسيغه من أي سيدة!
ننصح الجميع بعدم الرد على هذه الرسائل أو تزويد مرسليها بأي معلومات أو الاتصال بهم هاتفيا أو حتى الرد على مكالماتهم الخارجية، لأن الاتصال بهم مكلف والرد على مكالماتهم مكلف أكثر لوجود اتفاق بينهم وبين شركات هاتف معينة على نسبة معينة من قيمة كل مكالمة، ولو كانت بضعة دولارات بسيطة، أو تحويل 20 دولاراً لتكملة المعاملة، فكل ما يطلبه هؤلاء هو القليل جدا من كل غافل لتكون حصيلتهم في نهاية اليوم كبيرة من عدد كبير من المغرر بهم.
نعود ونكرر انه ليس هناك من يدفع مقابل لاشيء، وليس هناك من يرغب في أن تثري «أنت» بالذات دون غيرك من سكان العالم، الذين سيصل عددهم الىسبعة مليارات إنسان خلال 10 سنوات. فمن باع «الترام» والأهرامات في مصر قبل 70 عاماً لا يزال قريبه يعيش بيننا، يحاول بيع الأمل نفسه لطامحين أو طامعين آخرين بثراء سريع!
وبهذه المناسبة أتذكر قصة رجل الأعمال المعروف الذي أجرت معه صحافية مقابلة وسألته عن الكيفية التي جمع بها ثروته، فقال لها انه كان فقيرا جدا وشعر في يوم ما بجوع شديد، ولم يكن يملك غير نصف دولار وقتها، فاشترى تفاحتين ولمعهما بفركهما بقميصه الرث وذهب الى حي المال وعرضهما أمام أحد المصارف وباعهما خلال وقت قصير بدولارين محققا 300 % ربحا. ثم ذهب واشترى ست تفاحات وفعل الشيء ذاته، وباعها بعشرين دولارا، واستمر على ذلك المنوال لفترة طويلة.. وفجأة مات والد زوجته المليونير فورث وزوجته ثروة كبيرة منه، ومن تلك الثروة كون امبراطوريته الحالية! وقال لها هل صدقت أن بيع التفاح كان سيجعل مني ذلك الرجل المعروف في الحي المالي الآن؟

أحمد الصراف

احمد الصراف

مشكلة الوجود المسيحي العربي

لا يعاني المواطن غير المسلم، والمسيحي واليهودي بشكل خاص، مشاكل كبيرة في العيش بسلام مع بقية مواطنيه في غالبية دول المغرب العربي، مقارنة بوضع أقرانهم في دول المشرق، على الرغم من أن وجود مسيحيي الشرق بالذات سابق لوجودهم في أي منطقة أخرى في العالم. لذا نجد أن المواطن غير المسلم في دول المغرب، بشكل عام، لا يفكر في الهجرة، كما هو حال، وربما مآل مسيحيي الشرق الذين يتملكهم يوما عن يوم الشعور بضرورة البحث عن موطن آخر، خوفا من التطرف الديني على مستقبلهم ومستقبل أبنائهم، على الرغم من أنهم كانوا هنا قبل المسلمين بمئات السنين!
يمكن القول بشكل عام، مع إصرار على تجاوز فترات مظلمة في تاريخ المسيحيين واليهود في دول الشرق، بأن أوضاع غير المسلمين «الأمنية بالذات»، في بلاد الإسلام بشكل عام لم تكن سيئة دائما، وخاصة في فترات التسامح والازدهار الثقافي والفني والبحث العلمي التي لم تستمر طويلا إبان حكم العباسيين. ولكن هذا الخوف تزايدت وتيرته مع بداية الصحوة الدينية الإسلامية «المباركة»، التي ترفض التعايش مع الآخر، ما لم يكن ذلك التعايش خاضعا لشروطها الدينية التي من أساسياتها تقسيم الآخر بين مسلم وذمي وكافر ومشرك وعبد وحر ورجل وامرأة وغير ذلك، وقد تسبب كل ذلك في حركة هجرة الشباب المسيحي إلى دول الغرب، وهي الهجرة التي بدأت هادئة ومتقطعة قبل ثلاثة عقود، وأصبحت أكثر وضوحا في السنوات القليلة الأخيرة، وبالذات من مصر ولبنان والعراق، وأغلب، وربما كل من هاجر من هؤلاء لا يفكر حتما بالعودة لما كان يوما، ومن آلاف السنين، البيت والوطن والأرض الطيبة! والغريب أن جهات إسلامية ومسيحية تشجع هؤلاء على الهجرة، سواء بالتهديد المباشر لأوضاع حياتهم، أو بإشاعة ما ستصبح عليه أوضاعهم في منطقتنا، إن تسلمت الأحزاب الدينية الأصولية زمام الحكم في أي دولة عربية، كل هذا مع وجود هاجس الدعوة التي تتبناها أحزاب وجهات عدة للعودة إلى نظام الخلافة الإسلامية، وكل هذه المطالبات كافية لبث الرعب في نفوس الأقليات المسيحية الشرقية، التي لم تنس ما عاناه آباؤهم وأجدادهم من ذل وتحقير على يد العثمانيين، التي يتجنب أتراك اليوم حتى التطرق إليها!
وقد يتساءل البعض عن سبب كل هذا الاهتمام بمسيحيي الشرق، والخوف على مصيرهم، وسبب الحرص على بقائهم بيننا، بالرغم من اختلافهم الكبير عن أسلوب عيش وتفكير الغالبية العظمى من سكان أي وطن عربي وشرقي، وللإجابة على ذلك، فإننا سنتجنب الدخول في متاهات التاريخ، وسنتجنب أيضا الجدال في العدد الحقيقي لمسيحيي دول الشام والعراق ومصر مثلا، قبل الغزو الإسلامي لبلادهم، أو بعد ذلك، لكي نؤكد حقهم في البقاء هنا ومعاملتهم كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، مثلهم مثل غيرهم، فهذا سيطول بحثه وربما لن ننتهي إلى نتيجة حاسمة، على الرغم من تاريخ التعايش المشترك الذي يجمع الطرفين لأكثر من 1400 عام وهو أكثر من كاف، بل سنحاول هنا أن نبين أن وجود المسيحي، وغيره من أتباع الديانات الأخرى، بيننا ضروري لصحتنا العقلية والنفسية ولتقدمنا الحضاري والثقافي، هذا إضافة إلى حقهم الطبيعي في هذه الأرض كغيرهم من المواطنين.
فلا أحد يمكن أن ينكر حقيقة أن عطاء المسيحي لوطنه في حقول الثقافة والفنون والآداب يزيد بكثير عن نسبتهم لعدد السكان الإجمالي في أي دولة عربية أو إسلامية بشكل عام.
كما أن الفضل يعود إليهم في المقام الأول في ترسيخ مفهوم الوطن والمواطنة، وبغيابهم يسهل على معادي هذا المبدأ محو هذا الشعور وإذابة الوطن في كيانات أكبر قد لا تكون مناسبة.
كما أن وجودهم بيننا، أو وجودنا بينهم، لا فرق، يجعل المجتمع أكثر تسامحا بعضه مع بعض من جهة، ومع الآخر من جهة ثانية. كما أن لغة التخاطب بوجودهم تصبح أكثر تهذيبا ورقيا، ولو كان مفتعلا في مراحله الأولى، فسرعان ما يصبح عادة وجزءا من مسار الحياة.
ووجودهم بيننا، أو العكس، يجعل من ألوان المجتمع وثقافاته أكثر تعددا وتنوعا ومن الحياة أكثر بهجة. وزيارة لقرى ومدن أقباط مصر في المنصورة، أو ضيع الموارنة في كسروان لبنان، أو مدن الأرثوذكس في وادي النصارى بسوريا، ستبين ما يعنيه هذا الكلام، فهل بإمكان أحد تخيل بكفيا أو شتورة أو بسكنتا أو صيدنايا أو معلولا أو حتى المنصورة من غير مسيحييها؟
وفوق هذا وذاك فإن المسيحيين العرب، بالإضافة إلى كل مناقبهم وإسهاماتهم الكبيرة في كل نشاط، لم تقع بينهم وبين المسلمين أي حروب حقيقية منذ انتهاء الحروب الصليبية، وحتى اليوم. كما أن الكثيرين منهم وقفوا مع صلاح الدين ضد الغزاة الصليبيين. كما ان مسيحيي لبنان ومسلميه لم تقع بينهم حرب دينية واحدة طوال أكثر من ألف عام، ولكن فجأة شعر المسيحي اللبناني والعراقي والمصري أن وجوده مهدد، بعد قتل رهبانهم وبطاركتهم وهدم كنائسهم ومنعهم حتى من ترميم القديم منها، وبعد كل ذلك ماذا يتبقى من وهج لبنان وعنفوانه وتنوعه إن رحل المسيحيون عنه؟ والأمر ذاته ينطبق على سوريا والعراق ومصر وغيرها من الدول العربية.

أحمد الصراف