لدي اهتمام شديد واطلاع لصيق على تاريخ منطقتنا المعاصر عبر قراءتي لآلاف الكتب ومحاضر البرلمانات والمحاكمات والمذكرات الشخصية والدوريات الصحافية الصادرة في بلداننا العربية الممتدة من الخليج حتى المحيط، وقد تكون لمصر خصوصية، حيث ان مواطنيها الأجزل في الكتابة وهي الاسهل في الحصول على المخطوطات التراثية الاصلية التي تظهر بوضوح التفاصيل الصغيرة للحياة المصرية اليومية في الأزمان السابقة.
وارى ان هناك تشابها شديدا عند مقارنة الحياة الكويتية والخليجية هذه الايام والحياة في مصر الملكية في العقود الثلاثة الاولى من القرن الماضي، فقد كانت المملكة المصرية آنذاك شديدة الثراء والتقدم حتى ندر ان تجد مصريا مهاجرا او يعمل في الخارج، مقابل هجرة ما يقارب 3 ملايين انجليزي وفرنسي وايطالي ويوناني وقبرصي ومالطي وغيرهم من اوروبيين وشوام واتراك وحتى خليجيين من كويتيين وسعوديين للعمل والتجارة والإقامة على ارضها، حيث كان معدل الاجور في مصر آنذاك اعلى منه في اوروبا وباقي دول المنطقة.
وكان ابناء الطبقة الوسطى والغنية المصرية ومنهم الكتاب والساسة والاعلاميون يرحلون في كل اجازة الى مصايفهم في سويسرا وجنوب فرنسا وايطاليا وبريطانيا، ومما كان يقال عن احتدام الصراع بين القوى الوطنية والقوى الاستعمارية الدعوة لاستبدال المواطنيين المصريين اجازاتهم الصيفية التي يتم قضاؤها عادة في اوروبا بالسياحة في الداخل او في الدول العربية.
كذلك فقد كان اغلب الطلبة المصريين يرسلون في بعثات دراسية الى الدول الاوروبية المختلفة، ومما قرأته في مذكرات البعض من هؤلاء انهم كانوا يختارون ارقى المناطق للسكن فيها ولم يكن احد من الطلبة يعمل لسد حاجات دراسته كما اشتهرت في الصحف آنذاك الدعوات للكف عن تدليع الابناء والذي يتم عن طريق شراء السيارات الفاخرة لهم والإفاضة عليهم بالاموال في الغربة، وقد عاب د.زكي مبارك على بعض الطلبة استهتارهم وبقاءهم يدرسون في الخارج حتى سن الثلاثين.
وفي الداخل المصري كانت الديموقراطية على اشدها، حيث خلفت شرائح سياسية شديدة الاحتراف درس اغلبها في الغرب ومثلها رجال اقتصاد كبار كطلعت حرب، وقد بدأ التحول بمصر من الغنى والرقي الى الفقر والبؤس عندما تسبب التنازع السياسي المتواصل بإثارة حنق العامة ومن ثم التمهيد لانقلاب العسكر في يوليو 52.
كما ساهم بسوء الاوضاع في مصر الزيادات السكانية الرهيبة وخلق الاقتصاد الريعي في مرحلة الخمسينيات والستينيات والعداء الشديد لرجال الاعمال ممن تمت تسميتهم بالإقطاع، ومن ثم هجرتهم واموالهم لخارج مصر وتدمير القطاع الخاص الفاعل بالتبعية ومثل ذلك سلسلة المغامرات والحروب العبثية والنكسات المتتالية التي تعرضت لها مصر وصرف الاموال على الحروب بدلا من قضايا التنمية.
وراهنت الغوغائية والانظمة العسكرية على الاتحاد السوفييتي الثوري الذي اشتهر بفقره وافقاره لحلفائه، وقامت ـ بذكاء شديد ـ بتبني حروبه العقائدية ضد مشاريع الولايات المتحدة في المنطقة الهادفة لإنعاشها ومنع الحروب فيها كوسيلة لمنع انتشار الشيوعية كما حدث في دول غرب اوروبا وشرق آسيا، ومن ثم فرحت بإسقاطها مشروعي ايزنهاور وحلف بغداد في وقت سعدت واغتنت فيه دول حلف الناتو ودول حلف شرق آسيا من تلك المشاريع، وكم في مصر الامس من دروس لكويت اليوم والغد.