تظهر السيرة العطرة لسمو الأمير الشيخ صباح الأحمد، حفظه الله، ما يثبت اننا أمام قيادة تاريخية، جمعت في فكرها ووجدانها ما بين الحكمة وبعد النظر، وروح الابتكار والتجديد، فقد عاصر سموه أربعة حكام للكويت عمل معهم وتعلم منهم، كما عايش وتعامل مع كثير من القيادات التاريخية العربية والإسلامية والدولية.
وضمن الداخل الكويتي كان سموه عضوا في مجالس الأمة المتعاقبة طبقا لاستحقاق موقعه كوزير وكرئيس للوزراء لمدة 43 عاما متواصلة مارس فيها العمل الشعبي بفاعلية تحت قبة البرلمان، وقد يكون البرلمان الحالي هو البرلمان الوحيد، منذ نشأت الحياة الديموقراطية في الكويت، الذي لم يعد سموه عضوا فيه بعد تسنمه مقاليد الإمارة وترؤسه للسلطات الثلاث.
وتظهر صفحات التاريخ تقلد سمو الأمير المسؤوليات الكبار صغيرا، لم يتجاوز عمره حينها العشرينيات، فأبدع وانجز حيث تقلد في الخمسينيات مسؤولية دائرة (وزارة) الشؤون الاجتماعية والمطبوعات والنشر، فأنشأت الكلية الصناعية لتأهيل الكويتيين على العمل الفني، وخرج قانون العمل والعمال، وصدرت مجلة «العربي» الرائدة، كما تأسست الدور الصحافية ومعها قانون المطبوعات والنشر، وبدأت في الوقت ذاته القفزة الكبيرة عبر ظهور الأندية الرياضية والجمعيات المهنية والحركات المسرحية والنهضة الفنية.
وبعد تسنمه مقاليد وزارة الخارجية استطاع فكره الخلاق ان يبتدع مدرسة جديدة للديبلوماسية، ديبلوماسية تعتمد على الصدق في القول وتطابقه مع العمل، وتقدم قضايا العروبة والإسلام، بل والإنسانية جمعاء، على المصالح الذاتية الضيقة، مما أعطى الكويت دورا فريدا أكبر بكثير من حجمها الجغرافي أو تعدادها السكاني، كما سخّر سموه جهود الكويت السياسية والاقتصادية لخدمة قضايا الخير والسلام في المنطقة والعالم وتعزيز دور الأمم المتحدة.
وقد بدأت الكويت مسارها السياسي، ودول العالم أجمع ومن ضمنها دول عدم الانحياز، وهي في حقيقة الأمر منحازة لهذا المعسكر أو ذاك ومحسوبة بشكل واضح إما على الكتلة الشرقية أو الغربية، وقد انعكس ذلك الصراع على دولنا العربية والإسلامية فتخندقت واصبح بعضها يعادي بعضا عدا الكويت التي خلق لها سموه مسارا فريدا وثّق من خلاله علاقة بلدنا بالكتلتين المتضادتين ونأى بنا عن الدخول في محاور الصراع العربي ـ العربي حتى كانت الكويت المرجع الوحيد المقبول من كل الأطراف عند الخلاف والاختلاف.
وقد استفادت الكويت استراتيجيا وأمنيا من تلك العلاقة المتوازنة للحفاظ على كينونتها، فقد وقف الاتحاد السوفييتي عام 73 مع الكويت ابان حادثة «الصامتة» رغم انه وقّع قبل عام معاهدة صداقة مع العراق مما حرم صدام من حصد جائزة اعتدائه أو حتى التمادي فيه، كما حصدت الكويت خير تلك العلاقة المتوازنة منتصف الثمانينيات عندما تسابق الروس والأميركان على حماية ناقلاتنا الحاملة لشريان حياتنا من الاعتداء في بادرة لم يشهد لها العالم مثيلا منذ انتهاء الحرب الكونية الثانية، وقد تكرر ذلك الأمر عامي 90 و91 في الاصطفاف الدولي من شرق وغرب لتحرير بلدنا.
ومن الأمور التي اشتهر بها سموه حبه الفاعل والحقيقي للسلام بين الدول حتى استحق ـ كما نقترح ـ ان يرشح بجدارة لجائزة نوبل للسلام، وان يطلق عليه لقب «أمير السلام»، فمنذ اليوم الأول لتسنمه عمادة وقيادة الديبلوماسية الكويتية بدأ عمله الدؤوب لمنع الحروب وتعزيز فرص السلام في المنطقة والعالم، حيث تدخل إيجابا لحل الاشكال اليمني ـ السعودي ـ المصري منتصف الستينيات، واستضافت الكويت لقاء الاخوة على أرضها، ثم ألحق ذلك بتدخلاته الخيرة لحل الاشكال الأردني ـ الفلسطيني عام 70، ومشكلة ايران ـ البحرين عام 72، وحرب اليمنين في العام نفسه، ثم حرب الهند وباكستان، وبعد ذلك رئاسته للجنة السداسية لوقف الحرب اللبنانية ورئاسته للجنة السباعية لوقف الحرب العراقية ـ الايرانية، ومثل ذلك حل الاشكالات العمانية ـ اليمنية، واليمنية ـ اليمنية المتكررة، وجهوده الفاعلة لإيقاف حروب البوسنة وحرب الشيشان، وكلها تحركات لم يسبق لأي قيادي شرقي أو غربي أن قام بشيء قريب منها.