قبل اربعين عاما، عندما زرت لندن لاول مرة، صدمت حضاريا بأمور عدة ليس المجال هنا لسردها جميعا، ولكني اتذكر ان رؤية العصفور الصغير وهو يحط على طاولة الطعام التي كنت اتناول غذائي عليها في حديقة «الهايدبارك» كان مفاجئا لي! فلم يسبق ان امتلكت طيور بلدي تلك الجرأة في الاقتراب من البشر، وضحكت بداخلي وانا اكلم نفسي قائلا ان ذلك الزرزور الصغير ما كان ليجرؤ على المخاطرة بحياته ومستقبله، لو كان يعرف الخلفية «الحضارية» التي جئت منها، والتي لم تكن تسمح لطائر، مهما صغر حجمه، بأن يقترب كل تلك المسافة من دون ان تنتهي حريته او حتى حياته.. الى الابد.
كما كنت اتعجب من طريقة حياة الموسيقيين المشردين، واختيارهم الشارع كمأوى. وكثيرا ما كان العزف الجميل لبعضهم يستوقفني لدقائق طويلة للاستماع له وانا اعبر انفاق المترو الارضية في طريقي الى البنك، وكنت اتساءل دائما عن سبب عدم قيامهم بالعزف في الحفلات والاماكن العامة طالما كانت لديهم كل تلك المواهب! كما كنت احتار في سبب عدم وجود مأوى لهم في دولة غنية كبريطانيا، قبل ان اعرف ان غالبية هؤلاء كانوا ولا يزالون يفضلون ما يوفره لهم النوم في الشارع من حرية مقارنة بالعيش في الملاجئ، لما تفرضه من قيود على حرية تحركهم ونومهم وروتين حياتهم الخالي من اي التزام بقواعد او قيود لا تتقبلها نفوسهم التواقة للحرية المطلقة وغير المسؤولة!
تذكرت كل ذلك وانا اقرأ النص التالي من رسالة انترنت، وجدت ان من المجدي ترجمتها وبتصرف قليل: في يوم من ايام يناير الباردة اسند رجل ظهره الى حائط في احدى محطات مترو العاصمة الاميركية واشنطن، وبدأ بعزف مقطوعة رائعة للموسيقار العالمي باخ، على آلة فيولين قديمة، استمر عزفه لخمس واربعين دقيقة، واثناء ذلك مر به الآلاف في طريقهم الى اعمالهم، بعد ثلاث دقائق من العزف توقف رجل في منتصف العمر لثوان ليستمع له قبل ان يسرع الخطى مرة ثانية، وبعد دقائق اخرى توقف رجل للحظات ليسقط دولارا في الاناء الموضوع امامه، قبل ان يستمر في طريقه، وبعدها بدقائق جلس رجل آخر على مقعد خشبي مقابله وانصت للعزف مليا قبل ان ينظر الى ساعته وينطلق الى حال سبيله، واجبر طفل والده على التوقف لينظر في وجه العازف وحركات يديه، وكان الوحيد الذي ابدى اهتماما، او ربما فضولا، اكثر من الآخرين، ولكن وقوفه لم يطل كثيرا بعد ان اجبرته والدته على مواصلة السير! وتكررت الحال مرات عدة مع اطفال آخرين، وفي جميعها اجبروا على مواصلة سيرهم.
خلال الفترة كلها توقف 6 اشخاص فقط للحظات، ووضع عشرون شخصا اموالا في انائه، وكان اجمالي ما تجمع لديه يقارب مبلغ 32 دولارا، وعندما انتهى من العزف لم يلاحظ احد ذلك، ولم يكن هناك اي تصفيق، او تقدير لجهده، ولم يعرف احد من آلاف المارة ان ذلك العازف لم يكن سوى جوشوا بل، احد اشهر عازفي الكمان في العالم، وان المقطوعة التي عزفها كانت واحدة من اصعب ما لحن باخ للعزف على الكمان، وان الآلة التي عزف عليها كان ثمنها يزيد على 3،5 ملايين دولار! وما لم يعرفه اي من المارة ايضا ان «حفلة» جوشوا بل الاخيرة، التي كانت في بوسطن قبل يومين من وقوفه في محطة المترو، بيعت تذاكرها ذات المائة دولار بكاملها في يوم واحد.
هذه قصة حقيقية تم ترتيبها بين الفنان وبين جريدة واشنطن بوست كجزء من دراسة تتعلق بدقة الملاحظة ونفاذ البصيرة والذوق والاولويات في حياة البشر.
بينت التجربة باختصار اننا، وفي اي مكان عام، لا ننتبه عادة للجماليات او ندرك حقيقتها، كما لا نتوقف عادة لتقدير قيمة اشياء كثيرة تستحق النظر او التأمل، كما لا نلتفت كثيرا لاصحاب المواهب ان تواجدوا في المكان غير المتوقع او المناسب!
والخلاصة اننا اذا لم يكن لدينا لحظة واحدة للتوقف والانصات لواحد من اعظم عازفي القرن، وهو يعزف واحدة من اجمل المقطوعات الموسيقية، على مر التاريخ ومن خلال اغلى آلة كمان، فكم من الاشياء الجميلة الاخرى يا ترى التي لا نحس بوجودها؟
أحمد الصراف